وجوب العمـل للدين

0 1067

نعم ! إنها خدمة يشرف بها العبد وليست مهنة قسرية يهان بها ، أو منصبا تشريفيا يخير بين قبوله أو الإعراض عنه ، وليست تبرعا ولا فرض كفاية ولا مجرد أداء واجب ، وإنما خدمة الدين ركن من أركانه وضروري من ضرورياته وأساس من أسسه . ولقد كان هذا المعنى مستقرا عند السلف الصالح استقرار المعتقد في القلوب ، ولم يحتاجوا أن يستدلوا له أو أن يقرروه لأنفسهم بشتى وجوه الاستدلال ، بل كان يكفي أن يسلم الواحد منهم أو يستقر الإسلام في قلبه ليعتبر نفسه بعد ذلك منذورة لهذا الدين ، ويجندها في خدمته ، ويصرف مجهوداتها في نصرته والذود عن حوزته .

إن هذا الدين إذا تأمله المتأمل علم أنه صيغ ليكون المتمسك به داعية إليه ، ودلالا عليه . ومع مزيد تأمل يرى المرء أن من أراد أن يكون مسلما دون تبعات ومسئوليات تجاه إسلامه فإنه رام ضربا من التدين شبيها بتدين الرهبان في الكهوف والصوامع والبيع ، وقد تقرر أنه لا رهبانية في الإسلام .

إن من أوائل الأوامر الربانية التي نزلت في القرآن : الأمر بالنذارة وتبليغ الوحي للخليقة ، يقول تعالى : (يا أيها المدثر . قم فأنذر ) . ثم توالى بعد ذلك ما يمكن أن نسميه فقه الدعوة، حيث تضمن التنـزيل أوامر عنيت بالشأن الدعوي مثل قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) وقوله تعالى: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) وقوله : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسـن)، وهي آيات ترسم صورة المسلم الداعية الذي يتبع نهج نبيه صلى الله عليه وسلم .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أوائل اهتماماته صياغة الشخصية الدعوية التي تحمل هم الدين وتبذل له . وكان أول من دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فلم يكن ذلك الصديق عالة على الدعوة وعبئا عليها ، بل تحرك من أول يوم ينشر هذا الدين حتى دخل بجهوده الدعوية في أول الأمر ستة من سادات قريش الشبان ، إضافة إلى سعايته في فكاك العبيد الذين أسلموا من أسر الرق .

وإن تحرك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد وفاته ـ في أقطار الأرض لدليل على أن الشخصية التي صاغها النبي صلى الله عليه وسلم ورباهم عليها هي الشخصية المتحركة للدين التي لا تعرف السكون ولا الكمون .

وفي تفسير قوله تعالى : { يا أيها المدثر . قم فأنذر } يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمـه الله - : فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه ( أي النبي صلى الله عليه وسلم) وينذروا كما أنذر، قال الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ، والجن لما سمعوا القرآن :{ ولوا إلى قومهم منذرين } . ويقول ابن القيم رحمه الله : وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس ، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه . ويقول الغزالي رحمه الله : "اعلم أن كل قاعد في بيته ـ أينما كان ـ فليس خاليا في هذا الزمان عن منكر ، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف ، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البـلاد ، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية ، وسائر أصناف الخلق ، وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية ، وواجب على كل فقيه - فرغ من فرض عينه لفرض الكفاية - أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم.أهـ .

وعن جعفر بن سليمان قال : سمعت مالك بن دينار يقول : لو استطعت ألا أنام لم أنم مخافة أن ينـزل العذاب وأنا نائم ، ولو وجدت أعوانا لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا : يا أيها الناس : النار النار . وقال إبراهيم بن أشعث : كنا إذا خرجنا مع الفضيل بن عياض في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهبا إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر ، فيجلس فكأنه بين الموتى ، جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها . وعن شجاع بن الوليد قال : كنت أخرج مع سفيان الثوري ، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا . والإمام الزهري لم يكتف بتربية الأجيال وتخريج أئمة الحديث ، بل كان ينـزل إلى الأعراب يعلمهم . وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي  - شقيق أبي حامد الغزالي رحمهما الله - كان يدخل القرى والضياع ويعظ لأهل البوادي تقربـا إلى الله .

يقول الراشد حفظه الله : ولا ينبغي للداعية أن يبتئس إن لم يجد فضل وقت لقيام الليل يوميا ، والإكثار من ختمات القرآن ، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خير وأجزل أجـرا ، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها ، ويبادؤون الناس بالكلام ، ويحتكون بهم احتكاكا هادفا ، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم ..ثم ذكر قصة الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قائلا : يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ؟

قال الراشد : أتاهم رسول رسول الله داعيا ، وكذلك الناس تؤتى ، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية ، ولو فصلت كلمة الأعرابي لتبين لك كيف فارق ذلك الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقوم هذا ، وكيف فارق أهله وبيته وأولاده ، وكيف اجتاز المفاوز وصحراء من بعد صحراء ، وكيف تعرض للمخاطر والحر أو البرد ، ليبلغ دعوة الإسلام . وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها ، لابد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم وزعم ، ليس القعـود والتمني من الطرق الموصلة ، فافقه سيرة سلفك وقلدهم تصل ، وإلا فراوح مكانك فإنك لن تبرحه .. ) أهـ (من علو الهمة 264).

إن التحرك للدين وبذل المجهود في الدعوة إلى الله والتمكين لشرع الله وإعلاء كلمته في الأرض يجب أن يكون عنصرا أصيلا في النسيج الإيماني لكل مسلم ، فلا يفتأ يحاسب نفسه في كل زمان : ماذا قدم لدين الله ؟ يتقلب في مضجعه قلقا ، لا يهنأ بنومة، ولا يطيب له وسن ، ترتاده أخبار المسلمين فيهتم ويغتم ، يفكر في سبل إيصال الحق إلى الخلق فيخاف أن يقصر ، يقلق من تنامي الكفر والفسق ، يجزع من قلة الناصرين لدين الله ، إنه لا يفكر في جاره فقط أو صديقه كيف يدعـوه ، إنه يفكر في سكان الكرة الأرضية كيف يدخلهم في دين الله أفواجا . يالها من همة لو وجدت لها فؤادا . وأحسب أن مثل هذه النفس لو تلفت هما على حال الدين لما كان ذلك كثيرا جللا .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة