رمضان والرحيل المر

0 1046

 

 

 

 

 

أرأيتم لو أن ضيفا عزيزا ووافدا كريما حبيبا حل في ربوعكم، ونزل بين دياركم، وغمركم بفضله وإحسانه، وأفاض عليكم من بره وامتنانه.. أحبكم وأحببتموه، وألفكم وألفتموه.. حتى إذا تعلقتم به، ثم حان وقت فراقه، وقربت لحظات وداعه، فبماذا عساكم مودعوه؟ وبأي شعور أنتم مفارقوه؟
خليلي شهر الصوم زمت مطاياه   وسارت وفود العاشقين بمسراه
فيا شهر لا تبعد لك الخير كله      وأنت ربيع الوصل يا طيب مرعاه
مساجدنا  معمورة في نهـاره       وفي ليله والليل يحمـد  مسـراه
عليك سـلام الله شهر قيامنا         وشهر تلاقينا بدهـر أضعــناه

 

دهاك الفـراق فما تصنع     أتصبر للبين أم تجــزع
إذا كنت تبكي وهم جيرة    فكيف تكون إذا ودعوا

هاهي أمة الإسلام تودع شهر رمضان، رمضان الذي كنا بالأمس القريب نستقبله، وهانحن وبهذه السرعة نودعه، مر علينا وكأنه دقائق أو بضع ساعات، وكأني بك تسمع قول الله وهو يحذر المؤمنين من الفوات ويستحثهم على  اغتنام الأوقات؛ فيقول: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات}(البقرة: 183، 184). ومرت الأيام المعدودات وكأنها غمضة عين أو ومضة برق، ولم يبق إلا سويعات وإنها والله مصيبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

لقد عزم رمضان على الرحيل، وشمر عن ساق، وآذن بوداع وانطلاق، فقوضت خيامه، وتصرمت أيامه، وأزف رحيلهوانتقاله، ولم يبق لنا منه إلا سويعات، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

مضى رمضان:
مضى الشهر الذي شرفه الله وعظمه، ورفع قدره وكرمه، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر الرحمة والعفو والغفران. شهر أنزل الله فيه كتابه، وفتح للتائبين العائدين فيه بابه، فلا دعاء إلا مسموع، ولا عمل إلا مرفوع، ولا خير إلا مجموع، ولا شهر إلا مدفوع ممنوع.

شهر تنزل فيه البركات، وتكثر فيه الصدقات، وتكفر فيه السيئات، وتقال فيه العثرات، وترفع فيه الدرجات، جعله الله لذنوبنا تطهيرا ولسيئاتنا تكفيرا.

شهر الأمن والأمان، والبركة والإحسان، والتجاوز والغفران، والعتق من النيران. شهر النسك والتعبد، والقيام والتهجد، والركوع والتسجد.

شهر كانت أبواب الجنة فيه مفتحة، فلا يغلق منها باب، وأبواب الجحيم موصدة فلا يفتح منها باب، ومردة الجن مصفدة مسلسلة فلا سلطان لها على العباد، ومناد ينادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.

 

كل هذا الخير العميم والفضل العظيم يذهب بعد سويعات بذهاب رمضان، فحق أن تتقطع ـ والله - لفراقه قلوب المؤمنين، وتتحرق لذهابه نفوس المتهجدين، وتسيل لوداعه دموع الصائمين القائمين.

 

يا شهر رمضان: غير مودع ودعناك، وغير مزهود فيك فارقناك، ولو كان الأمر لنا لما تركناك.
أتراك تعود بعدها علينا؟ أم يدركنا الموت فلا تؤوب إلينا.. اللهم أعد علينا رمضان أعواما عديدة، وأزمنة مديدة.

عبرة وعظة
إن في انقضاء رمضان إشارة بانقضاء الأعمار وسرعة فناء هذه الدار، وتذكيرا لكل مسلم بأن الدنيا كلها أيام محدودة وأنفاس معدودة، وآجال مضروبة، وأعمال محسوبة، وأنها مهما طالت في أعين المخدوعين فإنها ظل زائل وسراب خادع  {فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}(لقمان:33)، {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار}(غافر:39).
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".

وقال صلى الله عليه وسلم: "مالي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم قام وتركها".
روي عن عيسى عليه السلام أنه قال لأصحابه: الدنيا قنطرة اعبروها ولا تعمروها.
وقال: من ذا الذي يبني على موج البحر دارا؟  تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا.

 

مضمار سباق
إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا.
رمضان سوق قام وهاهو يكاد أن ينفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.. فليت شعري من المقبول منا فنهنيه ومن المطرود منعزيه؟!

 

لقد انقسم الناس في رمضان إلى ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، فالسعيد من وفقه الله لطاعته وإتمام العمل وإخلاصه. والشقي من فرط في الشهر وضيعه وخرج منه كما دخل فيه، مصرا على الذنب مقيما على العصيان.

 

فيا من أحسنت في رمضان هنيئا لك ثواب الله ورضوانه، ورحمته وغفرانه، وعفوه وامتنانه. وأدم الطاعة لله حتى النهاية فإن الأعمال بالخواتيم، وإياك والغرور فيرد عليك عملك.
ويا أيها المسوف المصر على طغيانه المتمادي في عصيانه؛ لقد عظمت والله مصيبتك وجلت بليتك.. أما سمعت نبيك وهو يقول: "من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له...". فإلى أي يوم أخرت توبتك؟ وإلى أي عام ادخرت أوبتك؟ أإلى عام مقبل أم إلى رمضان قادم.. هيهات.. وما أدراك أن تبقى مدة عام؟! كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر؟! وكم من مستقبل يوما لم يستكمله؟! ومؤمل غدا لم يدركه. إنك لو أبصرت الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروه.
تؤمل أن تخلد والمنايا                       تدور عليك من كل النواحي
ولا تدري إذ أمسيت يوما                   لعلك لا تعيش إلى الصباح

كم كنت تعرف ممن صام في سلف        من بين أهل وجيران  وخـلان
أفناهم الموت واستبقاك بعــدهم            حيا فما أقرب القاصي من الداني

أين من كانوا معنا في رمضان الماضي شاهدين؟! أتاهم والله هادم اللذات وقاطع الشهوات ومفرق الجماعات، فأخلى منهم المشاهد، وعطل منهم البيوت والمساجد. فهم في بطون اللحود صرعى لا يملكون لأنفسهم خيرا ولا نفعا، ينتظرون أن ينفخ في الصور ليعرضوا على الله فيجازيهم على ما قدموا.
أيها المغرور! أتنتظر أن تكون مثلهم.. تفرط في رمضان وهو في يدك وتطلب غيره وهو بعيد عنك؟!
أتترك من تحب وأنت جار     وتطلبهم وقد بعد المـزار
وتبكي بعد نأيهم اشتياقا         وتسأل في المنازل أين ساروا
تركت سؤالهم وهم حضور    وترجو أن تخـبرك الديار
فنفسك لم ولا تلم المطايا       ومت كمدا فليس لك اعتذار

 

الأعمال بالخواتيم
أيها الأحبة الصائمون.. لإن كان قد بقي لنا في رمضان كلام فهي دعوة وتذكير..
دعوة لجميع المسلمين أن يجتهدوا في الساعات الباقية فيختموا شهرهم بالحسنى؛ فإن الأعمال بالخواتيم. ومن أحسن فيما بقي غفر له ما مضى. ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقى.

وخير ما تشغل به هذه الأوقات هو الاستغفار وطلب العفو من العزيز الغفار، فإنه ختام الأعمال الصالحة، به ختم الله الحج فقال: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}(البقرة:199).
وبه ختم قيام الليل فقال: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}(آل عمران:17].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختم به صلاته فيقول: (أستغفر الله، أستغفر الله.. اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام).
وأمر الله نبيه أن يختم به حياته فقال: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}(النصر:3).

 

وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم أن يختموا رمضان بصدقة الفطر وبالاستغفار.. فأكثروا من الاستغفار، وأظهروا لله الحاجة والافتقار.. وقولوا كما قال آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}(الأعراف:23).
وكما قال نوح: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين}(هود:47).
وكما قال موسى: {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم}(القصص:16).
وكما قال ذو النون: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}(الأنبياء:87).
بل وكما قال الصحابة: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}(البقرة:286).

اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وتول أمرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، واجعلنا من عتقائك من النار.

 

 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة