الوحدة والتوحيد أساس بناء الحضارة الإسلامية

0 914

نموذج التلاحم بين العرب والبربر

تثور في كثير من بلاد المسلمين نعرات عنصرية، تحاول تهميش الأخوة الإسلامية، وتذويب التلاحم الجنسي الذي صهره الإسلام في بوتقة "الأخوة"، وفتح به العالم من خلال كل الأجناس الإسلامية صانعة الحضارة الإسلامية، عربية أو تركية، أو كردية أو بربرية!!

وفي بلاد الشمال الإفريقي ( والأندلسي سابقا ) وجدت ومازالت محاولات تدميرية للإيقاع بين عنصري العرب والبربر الذين يرجعان في الحقيقة إلى أصل عربي واحد، وقد التحما معا في فتح الأندلس ونشر الإسلام في العالم.

ومن البديهي أن العنصر البربري بكل خلفيته الثقافية يمثل واحدا من أبرز المكونات الثقافية للمغرب العربي الإسلامي - ومن العبث بل من الأنانية القومية - إنكار دوره الحضاري الأساسي عبر عدد متطاول من القرون!!

على أنه لا يمكن – مع وجود هذا العنصر – إهمال المكونات الثقافية العربية التي استقرت على امتداد المغرب منذ الفتح الإسلامي، ولا سيما تأثير الدولتين الكبيرتين: بني رستم في تيهارت، والفاطميين في المهدية، وهما دولتان قامتا على التوحيد بين البربر والعرب في سياق واحد!!

وهذا لا يعني إهمال شأن الجهد الذي بذله البربر أنفسهم في تعلم العربية وعلوم الإسلام، حتى إننا لنجد القرن الرابع الهجري لم يكد يبزغ حتى صار كثير من البرابرة يزاحمون العرب في علوم لغة "الضاد" وأصبح علماء البربر يناظرون فقهاء العرب في القواعد الأصولية والفروع الفقهية وقضايا علم الكلام.

لقد استطاع الطابع العربي أن يغلب على الثقافة منذ مطلع القرن الرابع الهجري، وقد ساعد على ذلك أن الثقافة العربية جزء من الإسلام الذي هو عقيدة الأمة، وأن تاريخ الأمة منذ ثلاثة قرون هو تاريخ هذه الثقافة، وأن المغرب العربي محاط من كل أطرافه بثقافات عربية، سواء من ناحية الشمال حيث (الأندلس الإسلامية)، أو من الشرق حيث منابع الثقافة الإسلامية.. مما يجعلنا نطمئن إلى القول بأن الثقافة العربية الإسلامية قد نجحت في أن تكون الثقافة "الأم" والأولى.. منذ القرن الرابع الهجري، ونجحت في أن تكون مناط عناية الدول البربرية، على اختلاف منازعها واتجاهاتها السياسية الرسمية.

ولقد حظيت العربية باحترام البربر – أيما احترام – على وجه العموم، وقد اعتبروها لسان الأدب ولغة العلم وعنوان الثقافة، فانبلج بالتالي في القرنين الخامس والسادس الهجريين "عصر جديد أصبحت فيه اللغة العربية ربة المنزل، وصاحبة الأمر والنهي على القرائح والعقول".

وعند منتصف القرن الخامس الهجري حدث ما هو معروف من زحف القبائل العربية على المغرب العربي، ومهما يكن من الآثار السلبية التي خلفتها هذه القبائل في الحياة السياسية والاقتصادية والعمرانية (بخاصة) في المغرب العربي، فإنها كانت من الناحية الثقافية أكبر العوامل المؤثرة في تعريب الثقافة المغربية.

فقد أثرت لغة التخاطب لقبائل بني هلال وبني سليم في اللسان البربري، الذي كان طاغيا على اللسان العربي في الأرياف، وفي المدن أيضا، وسارت عملية الاستعراب تبعا لعملية المزج والاحتكاك في الحياة العملية اليومية.

وقد برز بهذا المظهر الحضاري دور جديد في الآداب المغربية يسميه أحد المؤرخين المعاصرين بـ(الدور المدرسي)، وهو دور تم وضع حجره الأساس في القرن الخامس الهجري، وقد ظل هذا الاتجاه يختمر في القرن السادس الهجري، وهو دور يمتاز بأنه آخر الأدوار المدرسية الأخرى، التي اختمرت في الذهنية المغربية، ولهذا فقد جاء "خلاصة للأدب العربي وزبدة للعقول".

ويبدو أنه بعد هذا الدور بدأت (الجزائر) تدخل في عداد الدول المعربة فعلا، وقد سبقتها بقليل من السنوات (تونس)، أما المغرب الأقصى فقد تأخر عنهما تأخرا نسبيا يمثل خلافا في الدرجة، لا في المظهر الحضاري العام!!

ومن عناصر التكوين الثقافي التي لا يمكن تجاهل تأثيرها في هذا الطور، زحف مذهب "مالك بن أنس" بدءا من التأثير الذي أحدثته "مدرسة القيروان" التونسية، ومرورا بالقسم الغربي في العالم الإسلامي كله، وهو القسم الذي انتظم فيه الأندلس وبلدان المغرب العربي، وعبورا إلى القارة الإفريقية حيث لا يزال مذهب مالك هو المذهب الغالب في هذه البلاد.

والجدير بالذكر أن احتكاك المغرب بالأندلس وهجرة بعض الأندلسيين والأفارقة والصقليين وغيرهم إليه، وإسهام هؤلاء في الحركة الثقافية المغربية، بما حملوه من علوم وآداب.

كل هذه العناصر وربما غيرها، قد كونت الملامح الأساسية للشخصية الثقافية المغربية، وساعدت على إبرازها في صورة حضارية خاصة ذات إطار خاص، كما أن هذه العناصر في الوقت نفسه قد ساعدت على رقي الثقافة المغربية وازدهارها عامة.

وقد انتشرت في هذا العصر ظاهرة التنافس الثقافي، وكان السباق قائما بين بلدان المشرق والمغرب والأندلس وعواصمها المختلفة المهدية وبجاية وفاس، وتلمسان، وسبتة ، وبغداد والقاهرة والمدينة المنورة، ومكة، وغيرها.

وقد برزت كل مدينة من هذه المدن بلون خاص من العلوم أو الآداب غلب عليها، واشتهرت به.

فالمهدية عاصمة البحوث الكيماوية، وصقلية عاصمة الترجمة والنقل للعلوم العربية إلى اللاتينية، وبجاية عاصمة الرياضيات (ومن بجاية الجزائرية هذه أخذ الأوروبيون الأرقام العربية والجبر والمقابلة وهندسة أوقليدس)، وهكذا الأمر في كل عاصمة إسلامية عربية.

وقد ساعد على هذا التنافس وعطائه الحضاري، ما كان يلتزم به الحكام من رعاية للملتصقين بهم من العلماء والأدباء والشعراء.

وعلى سبيل المثال، فإن حكام المغرب الأوسط (الجزائر) خلال القرن الخامس والسادس للهجرة كانوا يرعون العلماء والشعراء، ويغرونهم بالقدوم عليهم، ويجودون عليهم بالعطاء جودا حاتميا، وكان أبرز حكام الجزائر على الإطلاق خلال القرن الخامس الهجري "الناصر بن علناس الحمادي" أطول الملوك باعا في هذا المضمار، فقد كان يؤمه الأدباء، ويقصده الشعراء، فيغدق صلاته عليهم.

وكان الأمير "المنصور بن الناصر بن علناس" الذي خلف أباه الناصر على حكم الجزائر، يكتب ويقول الشعر، ويشجع الأدباء والشعراء.

وكانت حركة الانتقال المتاحة بين العواصم الإسلامية (دون جوازات سفر أو تأشيرات دخول وخروج)، كانت هذه الحركة الانتقالية التي غلب عليها طابع البعثات والرحلات العلمية، من أبرز العوامل في إذكاء روح النشاط الثقافي.

وهي ظاهرة عامة في العالم الإسلامي كله خلال هذه العصور بدرجات متفاوتة بين شعوب وحكومات هذا العالم، ولربما كانت هذه الظاهرة أقوى في عالمي المغرب والأندلس عنها في المشرق، نظرا لشعور أبناء المشرق بأنهم المصدر والأصل الذي يجب أن تشد إليه الرحال ويسعى إليه، وأيضا لشعور المغاربة بمكانة إخوانهم (المشارقة) في الحضارة الإسلامية.

لقد كانت حدود الأقاليم غير ذات أهمية وهي لم تمثل حاجزا أو فاصلا بين العلماء والأدباء والكتاب والشعراء، بل كانت الأفكار في العالم الإسلامي متصلة كما تعكس تقاربا ثقافيا يعتبر خصيصة كبرى من خصائص الحضارة الإسلامية في عصور الازدهار.

وفي الموسوعات العلمية الكبرى لهذه القرون تأكيد واضح لبروز هذه الظاهرة ودورها الإيجابي في خلق وحدة فكرية في العالم الإسلامي كله، فابن بسام يفرد القسم الرابع من موسوعته "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"(القسم الرابع من المجلد الأول)، لمن هاجر إلى الجزيرة "أي الأندلس" من الآفاق وطرأ عليها من شعراء الشام والعراق، ويشتمل هذا القسم على تراجم لهؤلاء الرحالة الشعراء في القرن الخامس الهجري، وحتى وفاة ابن بسام سنة 542هـ قريبا من منتصف القرن السادس الهجري.

والمقري صاحب موسوعة "نفح الطيب" يورد لنا نحوا من مائتين وخمسين ترجمة لمن رحلوا عن الأندلس إلى المشرق من العلماء والأدباء والفقهاء، ويورد لنا أيضا قريبا من خمس وسبعين ترجمة لمن رحلوا من المشرق إلى الأندلس.

وفي كتاب "الصلة" لأبي القاسم خلف بن عبد الملك الشهير بـ" ابن بشكوال" المتوفى سنة 578هـ، نلحظ الظاهرة نفسها، فأغلبية المترجم لهم رحلوا إلى المشرق، وكثير من المشارقة زاروا الأندلس، وقد ألحقهم ابن بشكوال بقائمته التي أطلق عليها اسم "الغرباء"!!

وفي "التكملة" لابن الأبار، وفي "وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"فوات الوفيات" للصفدي، وفي "جذوة المقتبس" للحميدي، وفي غيرها من المصادر، نستطيع التأكد من هذه الظاهرة على نحو واضح.

ويذكر "ناصر خسرو" أنه رأى سنة 441هـ 1049م، وهو بمصر، بعثة للبحث عن الآثار الفرعونية (جماعات من المطالبين)، قادته من الشام والمغرب.

كما أن المشاهير كانوا يتبوأون مركزهم الثقافي على امتداد العالم الإسلامي كله، و"ناصر خسرو" يذكر لنا أن أفاضل الشام والمغرب والعراق يقرون بأن "أبا العلاء المعري" أديب عصرهم بلا منازع.

وحين يورد لنا "المقري التلمساني" حياة الأزدي الحميدي صاحب "جذوة المقتبس" المذكور آنفا، يخيل إلينا أننا أمام مواطن عالمي منوع غريب؛ فقد عاش وطلب العلم في كل من الأندلس ومصر ودمشق ومكة المكرمة وواسط وبغداد، وغيرها!!

فنحن بإيجاز شديد أمام ظاهرة يمكن أن نسميها بـ(الوحدة الحضارية) حتى وإن كان ثمة تفكك سياسي منتشر.

وهذه الوحدة الحضارية صهرت المغرب العربي في بوتقتها ولم تلبث أن جعلت انتماءه للحضارة الإسلامية انتماء وجود وكيان ومصير.

وفي ضوء هذا الذي ذكرناه بإيجاز تبدو محاولات الفصل بين العربي والبربر، وهي كذلك بين كل الأجناس الإسلامية في الحقيقة. عملية فصل بين أجزاء جسد واحد، وحضارة إسلامية تقوم في بنيتها الأساسية على الوحدة والتوحيد.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة