- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:أركان الدعوة
عن أبي الوليد عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم"[رواه البخاري ومسلم].
فأول بند في بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث عن السمع والطاعة. ويصف هذه الطاعة بصفات محددة لا تتجلى الطاعة إلا فيها، فالدعوة تحتاج من جنودها طاعة لا تمتزج فيها الأهواء، ولا تؤثر فيها الأمزجة، ولا تغيرها حالات العسر واليسر التي يمر بها الداعية كأي إنسان يعيش على هذه الأرض، طاعة مطلقة مادامت في طاعة الله، حتى وإن كانت تلك الأوامر مما تكره النفوس، أو هي معاكسة للآراء والأهواء (في المنشط والمكره)، فالمنشط واليسر لا يدلان أبدا على درجة طاعة الدعاة؛ لأن طاعة آنذاك سهلة على النفوس، إنما تبرز الطاعة الحقة لمتطلبات الدعوة، حينما تكون في العسر والمكره. على مثل هذا اللون من الطاعة بايع الرعيل الأول من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سعد يتذكر البيعة:
وفي اللحظات الحرجة التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل معركة بدر، وهو يعلم أن قريشا يعدون له العدة لملاقاته في أول معركة بين الحق والباطل وهو لا يملك إلا نفسه والمهاجرين، فكان يردد: "أشيروا علي أيها الناس"، وكان الذي يرد عليه أصحابه من المهاجرين، فكلما انتهى أحدهم من بيان الاستعداد الخوض المعركة، كرر نفس السؤال "أشيروا علي أيها الناس". هنا تنبه أحد قادة الأنصار الصحابي الجليل الذي اهتز له العرش عند موته "سعد بن معاذ" وقال له: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل قال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد".
وقول سعد رضي الله عنه: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟" ينبئ بأن سعدا لم يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد جواب الأنصار على سؤاله المتكرر، لأن نصوص البيعة لا تلزم الأنصار بالحرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمايته خارج المدينة، بل أنه اعتقد بأن أجوبة المهاجرين المتكررة كانت تمثل الجميع بما فيهم الأنصار، فلا داعي لسماع أجوبة الطرفين، ماداموا جميعا يمثلون "كتلة المؤمنين". وفهم منذ البيعة الأولى التي تحدث عنها عبادة الصامت، بأنها تقتضي بأن يبيعوا بذلك الأموال والأنفس في سبيل الله، لا يخافون في الله لومة لائم، وأنهم يخوضون غمرات الموت في سبيل الله، ولا أدل على ذلك من قوله: "فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد". ومن المعروف أن الصحابة كان معظمهم لا يعرف السباحة، ولكنها الطاعة التي فهموها منذ اللحظات الأولى من البيعة.
دقة الجندية الإسلامية:
قال جندب بن مكيث الجهيني: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي إلى بني الملوح بالكديد، وأمره أن يغير عليهم وكنت في سريته، فمضينا حتى إذا كنا بالقديد.. فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر، فانبطحت عليه، وذلك قبل غروب الشمس، فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحا على التل، فقال لامرأته: إني لأرى سوادا على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك. فنظرت فقالت: والله ما أفقد منها شيئا. قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي، فناولته فرماني بسهم في جنبي، أو قال في جبيني، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك، فقال لامرأته: أما والله لقد خالطه سهماي، ولو كان ريبة لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا تمضغهما علي الكلاب. قال: فأمهلنا حتى إذا راحت روايحهم وحتى احتلبوا وعطنوا وسكنوا، وذهبت عتمة من الليل شننا عليهم الغارة، فقتلنا واستقنا النعم".[البداية والنهاية 4/223].
إنها مثال الدقة بالطاعة والتحمل من أجل تنفيذ أوامر القيادة، فلو تحرك ربما فسد كل شيء.
وفي غزوة الخندق قال حذيفة رضي الله عنه: "لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب. وأخذتنا ريح شديدة وقر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟) فسكتنا فلم يجبه منا أحد. ثم قال (ألا برجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟) فسكتنا فلم يجبه منا أحد. ثم قال (ألا برجل يأتينا بخبر القوم ، جعله الله معي يوم القيامة؟) فسكتنا فلم يجبه منا أحد فقال (قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم) فلم أجد بدا، إذ دعاني باسمي، أن أقوم. قال (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي) فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله (ولا تذعرهم علي) ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت. فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال (قم يا نومان".[رواه مسلم].
لقد كانت ليلة من أشد ليالي الشتاء بردا وظلمة، مما جعل الصحابة رضي الله عنهم لا يقومون عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا رجل يأتيني بخبر القوم؟"[رواه مسلم]. ولكنه عندما وجه الأمر لأحدهم وهو حذيفة امتثل حالا، ودونما تردد، وهو يعلم مشقة المهمة المرسل إليها، ويعلم أن نفسه تأبى الخروج في مثل هذه الليلة الشديدة البرد، ثم ترد دقة حذيفة رضي الله عنه في التنفيذ، إنه يرى أبا سفيان قائد جيوش الأحزاب بارزا أمامه دون حائل، ويكاد أن يقتله، ولكنه يتذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوقف عن الاجتهاد بما لم يؤمر به، لئلا يؤدي اجتهاده إلى ردود فعل غير متوقعة، أو إلى نتائج سلبية غير ما كان يرجو.
إن كثيرا من الخطط يصيبها الارتباك وكثيرا ما يصيبها الفشل بسبب اجتهاد القائمين على التنفيذ بغير ما أمروا به، فيجرون على أنفسهم ومن معهم من البلاء الذي لم يخطط لمواجهته الكثير الكثير، بسبب اجتهاداتهم وخروجهم عما أمروا به زيادة أو نقصا أو تجديدا كاملا، يختلف تماما من الأوامر الأصلية.
الطاعة لماذا؟
إن طاعة القائمين على الدعوة مطلب متأكد إذ إن طاعة أمير الدعوة من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، كما ذكر ذلك في الحديث الشريف: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصيني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعصي أميري فقد عصاني"[رواه مسلم].
وليس مهما أن يكون الأمير فلان بن فلان أو فلان بن علان مادام يأمر بالحق وينقاد إليه، ذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كأن رأسه زبيبة"[رواه البخاري]. وما ذاك إلا لأهمية الطاعة في حياة المجموعة، ليسهل سيرها، وتحقيق أهدافها "فالسمع والطاعة، من أهم حقوق القيادة في كل زمان ومكان، إذ بغير السمع والطاعة لا يمكن الضبط والربط، كما لا يمكن تكوين جيش رادع لعدوه، يدافع عن وطنه، وبغير السمع والطاعة تكون الفوضى التي لا نظام فيها، والاضطراب الذي لا استقرار معه".
حدود الطاعة:
عن علي بن أبي طالب قال: "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأنصار على سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا قال: فاغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا. فجمعوا فقال: أوقدوا نارا فأوقدوا"، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. قال: فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار. قال: فسكن غضبه وطفئت النار، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف".[رواه البخاري].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين هنا حدود الطاعة، وهي ما كان بالمعروف، فإذا خرجت عن دائرة المعروف، وانتقلت إلى ما يغضب الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وعندما تسلم أبو بكر رضي الله عنه الخلافة قال في خطبته: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". وهنا يحدد الصديق حدود طاعة الشعب لخليفتهم كما فهمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي ليست طاعة عمياء، إنما طاعة فيما أمر به الله أو ما هو في ضمن المعروف، أما إن خرجت عن المعروف فلا طاعة، فإذا أمر الخليفة أو المسؤول الأول في الدولة الشعب بمعصية بينة فلا طاعة للشعب له بذلك. وهكذا كل من له حق الطاعة من والد أو زوج أو غيره كلهم تجمعهم القاعدة الأصيلة والمبدأ العام أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
غياب الطاعة لماذا؟
الواقع الملموس يدل على تفريط كبير وعدم انصياعية عند كثير من المنتسبين إلى الدعوة، ولعل ذلك يرجع إلى عدة عوامل، منها :
أولا: غياب العمل المؤسسي المنظم والمتكامل عند كثير من أهل الدعوة.
ثانيا: عدم التربية على الطاعة منذ الصغر، فينشا الإنسان على ما تربي عليه.
ثالثا: الرغبة في التفلت خوفا من الالتزام وتحميل النفس الأعمال والأعباء التي تنتج عن الطاعة.
رابعا: اتباع هوى النفس وعدم الرغبة في الرضوخ لآراء الآخرين واعتداد كل شخص برأيه.
إن العمل الارتجالي لا يؤدي إلى ثمرة نافعة ولا يرجى من ورائه كبير فائدة، ولابد من وجود هيئات للتخطيط، وصف كامل للعمل يلتزم الطاعة التامة في المعروف، وإلا سنظل ندور في حلقة مفرغة ونزداد تخلفا عن الركب يوما بعد يوم .