- اسم الكاتب:الشيخ معوض عوض إبراهيم
- التصنيف:أب .. وأم
1. في سبيل هناءة الأسرة :
دعم الإسلام هناءة الأسرة ، فأحكم وثاقها بمن تربطها بهم قربى ، وشد أزرها بمـا أوجب من تراحم الأخوة والأخوات ، وبني العمومة والعمات ومن يليهم ، فليس أرضى لله تعالى من صلة الرحم التي أمر أن توصل ، وبر الأهل والعشيرة ، الذين يزكو عندهم إسداء المعروف، وليس أجلب لسخط الله من إهدار هذه الحقوق التي يوغر إهدارها الصدور ، ويثير العداوة ويؤرث الأحقـاد ، ويجعل الأسرة المتعاطفة متدابرة متخالفة .
ورعاية أولي الأرحام ، والتوسعة عليهم ، بما لا يشق إسداؤه إليهم ، هو عصام هذه الأسرة من التفكك ، وزمامها من الإنحلال والزوال ، وهو دواء أنفـس إن غفلت عن مغزى قول طرفة بن العبد الجاهلي :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على القلب من وقع الحسام المهند
فيما ينـبغي أن تغفل عن صورة الرحم الفـذة في قول المعصوم صلوات الله عليه وسلامه : أن الله تعالى خلق الخلق ، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم ، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى قل فذلك لك . رواه البخاري . قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأو إن شئتم ( فهل عسيتم أن توليتم أن تفسـدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) سورة محمد:22-23.
لقد شق الله سبحانه للرحم اسما من اسميه الرحمن والرحيم ، ومن رحمته التي وسعت البر والفاجر في هذه الحياة ، وجعلها خالصة للمؤمنين يوم يلقونه ، ليعظم حقهـا على العقلاء الذين يفهمون أن الحياة لا يمكن أن تصفو بغير تراحم الأقرباء، وتعاون الأحياء وذلك وحي الحياة ، وحديث الواقع قبل أن يكون وحي السمـاء وحديث النبوة ووصايا الآباء للأبناء .
2. أقاربنا أعضاء في جسم المجتمع :
إن في أفراد كل أسرة من الجفوة ، والشطط عن صراط الله قدرا مما شكا منه أحد صحابة الرسول فيما روى أبو هريره : [ أن رجـلا قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني ، وأحسن إليهم ويسيؤون إلي ، وأحلـم عليهم ويجهلون علي ، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل لا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ] . رواه مسلم .
ومن معاني هذا التوجيه النبـوي ، أن لهـؤلاء الجاحدين حقوقا على ذوي القلوب الكبيرة ، فالإحسان إلى المسيء من أدب الاسلام الذي يقول رسوله صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر وقد سـأله : يا رسول الله: أخبرني بفواضل الأعمال ، فقال: [ يا عقبة : صل من قطعك وأعط من حرمك ، وأعف عمن ظلمك ] . ثم أليس هؤلاء أعضاء في جسم المجتمع الذي يمنى بتشويه فادح إن نحن بترناهم من قبل أن نبلو عذرا بمحاولة إصلاحهم ، والعربي يقول :
وأمنحه مالي وودي ونصرتي وإن كان مطوي الضلوع على بغضي
ويقول مسكين الدارمي :
أخاك أخاك إن من لا أخـا له كساع إلى الهيجـا بغير سلاح
وإن ابن عم القوم فاعلم جناحه وهل ينهض البازي بغير جناح ؟
ويقول المقنع الكندي :
وإن الـذي بيني وبين بنـي أبي وبين بني عمي لمختلف جـــدا
فإن أكلوا لحمي، وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجـدا
ولا أحمل الحقد القديـم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
ومن قبل هؤلاء قال حاتم :
شربنا بكأس الفقر يوما وبالغنى وما منهمـا إلا سقانا به الدهر
فما زادنـا بغيا على ذي قرابة غنانا ولا أزري بأحسابنا الفقر
وأين من هؤلاء الأمجاد، ذلك الذي قيل فيه :
سريع إلى ابن العم يلطم خده وليس إلى داعي الندى بسريــع
3. صلة الرحم في كتاب الله :
قال تعالى: ( إنما يتذكر أولو الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) الرعد:19-21 .
وقال : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) سورة الرعد:26 .
فانظر في أي سياق وضع الله الذين يصـلون أرحامهم ؟ ومع من سلك الجفـاة القاطعين ؟ ولا أراك تود أن تذكر بين الذين يفسـدون في الأرض ، فيستوجبون لأنفسهم لعنة الله الدنيا والآخرة . وإنما تسارع لتكون بين أولي العقول الراجحة والقلوب المبصرة .
( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) محمد 22-23 .
وقال تعالى : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) . الأحزاب:6 .
قال الإمام النسفي في تفسير هذه الآية : كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين ، وبالهجرة لا بالقرابة ، ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بحق القرابة.
4. الرسول هو المثل الأعلى في صلة رحمه :
إن القول في صلة الرحم ذو سعة ، لكني أجتزئ منه بعض أطراف من تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك . فهي قبس يضيء جوانب البحث ، ويجمع القلوب والعقول على الأسـوة الحسنة بالرسول صلى الله عليه وسلم في بره بأهله وحدبه على مؤمنهم وكافرهم على السواء ، ولعل في ذلك ذكرى للذاكرين .
لقد كان إسلام حمزة برا منه بابن أخيه ( أي محمدصلى الله عليه وسلم ) ، يوم أن عاد من الصيد ، فقالت له امرأة ، إن أبا جهل آذى ابن أخيك وسب أباه، فذهب حمزة من فوره إلى أبي جهل فشجه وأنبه وقال : أتسب محمدا وأنا على دينه وأقول ما يقول ؟ وبهت عدو الله وعدو رسوله عند ذلك ، وكان إسلام حمزة أوجع لقلبه وأنكى من هذا الأذى المادي الذي أصاب جسمه ، وبقي الرسول يذكر هذه المنة لعمه ، حتى وقف على جثمانه حين استشهد في أحد ، وقال يرحمك الله يا عم فلقد كنت وصولا ، للرحم فعولا للخيرات !
وكان فتح خيبر وكأنه عيد من أعياد الإسلام ، فقد عاد يومئذ جعفر من الحبشة ، فقال النبي: [ ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا: بفتح خيبر أم برجوع جعفر؟] وتوالت الأيام ، ونعم جعفر بالشهادة في غزوة مؤته ، وضجت المدينة ببكاء أهالي الشهداء، وسمع الناس إلى النبي هو يقول : [ لكن
جعفر لا بواكي له ] ، ثم يلتفت إلى أهـله ويقول: [ اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد نزل بهم ما يشغلهم ] . رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد.
يقول عبد الله بن جعفر : جاءنا النبي بعد ثلاث من موت جعفر ، فقال: [ لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، وادعوا إلي بني أخي ، فجيء بنا ، كأننا
أفراخ ، فأمر الحالق فأصلح من شعرنا ثم داعبنا ] . رواه أبو داود والنسائي.
وكان النضر بن الحارث من أسرى بدر ، فلما بلغ الرسول ذلك أمر بقتله ، فطالما كذب النبي ، وافترى عليه ، وهو يعرفه كنفسه ، أليس هو القائل: (لقد كان محمدا فيكم غلاما حدثا أرضاكم قولا ، وأصدقكم حديثا ، فلما بـدا في صدغيه عارض الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم إنه كاذب ؟ والله ما هو بكاذب ، والله ما هو بكاذب ، والله ما هو بكاذب ، ثم لم يلبث أن بدا على طبيعته من الحقد والجهالة . يقول الإمام النسفي : كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن ، ويذكر أخبار القرون الماضية في قراءته ، فقال النضر بن الحارث لو شئت لقلت مثل هذا ، وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديثة من حديث رستم وأحاديث العجم . فنزل قول الله تعالى : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ) . وقال له النبي صلى الله عليه وسلم : [ ويلك هذا كلام الله ] ، فرفع النضر رأسه إلى السماء وقال: ( إن كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم ) .
وعلمت قتيلة بمصرع أخيها بعد بدر ، فكتبت إلى رسول الله :
أمحمد يا نسل خيـــر نجيبة في قومها.. والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت ، وربما من الفتى ، وهـو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من قتلت قرابة وأحقهم إن كـان عتـق يعتق
فرق الرسول لقولها : وقال: [ لو بلغني شعرها قبل قتله لعفوت عنه ] . الاستيعاب 4/195 والإصابة:8/80.
5. كيف أينع غراس النبوة :
لقد أينع غراس النبوة ، وآتى أكله ، وجنت الحياة جناه ، فترابط الأفراد في الأسرة وتعاونت الأسرة على البر والتقوى ، وفي مجتمع لم تعرف الحياة - ولن تعرف مثل تواصله وتكافله ، وكان المسلمون - كمـا وصفهم نبيهـم صلى الله عليه وسلم تتـكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، ولو كان بهم خصـاصة ، وهو نعت لمشاعرهم مع كل مسلم . وإنه لأجمع وأوفى إذا نظرنا إلى حالهم مع ذوي القربى ، الذين ذكرهم الله بما لهم عندنا من حقوق في آية الحقوق العشرة ( النساء:37 )، وآية البر ( البقرة 177 ) وغيرها من الآيات الكثيرة .
لقد كان مسطح بن أثاثة ، ابن خالة أبي بكر ، فقيرا مملقا يعود عليه الصديق بفضل ماله ، فلما شارك في حديث الإفك ، منع عنه أبو بكر خيره وبره ، وللرجل عذره الناهض حتى بعد أن نزلت آيات النور التي برأت الصديقة ولكن الله عاتب أبا بكر وحبب إليه أن يدفع بالتي هي أحسن ، ابتغاء مرضاة ربه ، فقال تعالى : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) سورة النور:22 .
وعاد أبو بكر إلى بر من أساء إليه في أكرم أهله عليه !! ويا له من دين يدعو أهله إلى أن يجدوا على الزلات ذيل المكارم !
6. صلة الرحم مثمرة في الدنيا والآخرة :
الإيمان بالله أبر ما يرجى يوم القيامة ، قال تعالى مؤيسا الكافرين من رحمتـه: ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم ) الممتحنة : 3 ، فليس عجيبا أن يكثر الرسول الوصاة بهذه الفضيلة .
يقول البلوي : صلوا أرحامكم بما أمكن ، فإن عدمتم ، فأقل شيء يكون السلام . وهو بأن تزور ذا رحم ، فتسلم عليه ، وتؤنسه بالقول ، وتلين له الحديث ، وبمثل هذا يستمال الغريب ، فكيف بالقريب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ ألا أدلكم على شيء أذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ] رواه مسلم وغيره.
فهل نرى الرحم أفرادا وجماعات وشعوبا ، فبرغم غمرات الحياة التي تحيق بأممـنا على التبدد والزوال ، ونشعر الذين يجالدون الاستعمار في بعض أقطارنا أنهم ليسوا وحدهم في معترك الأحداث ، وإنما يهتم بأمرهم المسلمون في كل مكان ، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ،[ وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ] رواه أبو داود والنسائي . كما قال صلوات الله عليه وسلم. وهلا ارعوى من فتنتهم المذاهب الوافدة عن أن نتناجى بالإسلام ، ونتناجى بالأخوة الإنسانية وبوجود الدار وحق الجوار .