رحمك الله يا عمر!!

0 869

رحمك الله يا عمر .. كلمة وجدتني أنطق بها بعد أن جلست مع بعض الشباب ، وسمعت منهم مشاكلهم وهمومهم ، وعرفت منهم تطلعاتهم وأفكارهم .
ثم وجدتني أنطق بها مرة أخرى بعد أن قرأت استطلاعـا للرأي أجرته صحيفة يومية مع طالبات الجامعة حول ما يلبسن ويفضلن من الأزياء .
لقد كان عمر بن الخطاب إذا ينظر من خلال حسه المرهف ، وفكره الملهم ، وكرجل مسئول يريد أن يحفظ على الأمة دينها ، ذلك حين جلس مع أهل الرأي والمشورة ليختاروا لأمة الإسلام تأريخـا خاصـا بها ، وقرروا أن تكون هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي السنة التي يبدأ منها التأريخ الإسلامي .
كان في مقدور عمر أن يترك المسلمين يؤرخون سنيهم ، ويحددون وقائعهم تبعـا للتأريخ الميلادي أو الشمسي، أو أي تأريخ موجود بالفعل ويستعمله أهل تلك الأزمان، هذا إذا كان المقصود هو مجرد عد الأيام وتحديد الأوقات والأزمان، فعندئذ فأي تأريخ يمكنه القيام بالمهمة، فلماذا إذا يحمل عمر كل هذا الهم وكل ذلك العناء ؟!

لم يكن فعل عمر فعلا عنتريـا، ولا رأيـا دكتاتوريـا، ولا شيئـا جديدا على الدين ـ حاشاه ـ وإنما هو عين الشريعة، وعين ما تعلمه من نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

لقد تعلم عمر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن قواعد الشرع أن التميز والتمايز بين المسلم وغير المسلم أصل من أصول الإسلام، وأس من أسس حفظ الأمة، وحفظ الدين على أهله وأصحابه وهذا عين ما كان يفعله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويؤصله في قلوب المؤمنين من خلال الأقوال والأفعال .
فعندما دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة وجدهم يحتفلون بيومين ـ أي عيدين ـ ، فقال : [ لقد أبدلكم الله بيومين خير منهما : يوم الفطر ، ويوم الأضحى ] .

وصام ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عاشوراء ، فلما أخبر أن اليهود يصومونه قال : [ لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ] ـ يعني مع العاشر ـ .
حتى القبلة ظل أمرها يؤرقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل يدعو الله أن يغيرها عن قبلة أهل الكتاب، ويجعل لأهل الإسلام قبلة خاصة بهم، وهي الكعبة المشرفة ـ زادها الله شرفـا ـ فاستجاب الله له ووجهه إليها .
لم يتوقف ذلك التميز ، وتلك الاستقلالية على جانب من الجوانب، بل شمل كل جانب مع التركيز الشديد على الشكل الظاهر، ولو في أبسط الأشياء، فاسمع إليه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ وهو يقول لأتباعه: [ خالفوا المشركين ] ، [ من تشبه بقوم فهو منهم ] ، [ إياكم وزي الأعاجم ] إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، هذا غير ما في كتاب الله من الآيات التي يصعب عدها وحصرها.
إن مسألة التمايز والحفاظ على الهوية مسألة خطيرة جد خطيرة، وانحسارها أو ذهابها يعد أكبر معول هدم في صرح الديانة؛ لأن معنى ذهاب المفارقة والتمييز أن يذوب المسلمون في غيرهم، ليس كما يظن البعض في الشكل الظاهر فقط، وإنما هذه المشاكلة الظاهرية تستتبع مشاكلة في الباطن ولابد، وهو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو ما يعني كما قلنا الذوبان عقديا وثقافيا واجتماعيا و … إلخ.
وهذا معناه انهيار الأمة وضياعها دون شك، ولذلك تنبأ العلامة المؤرخ ابن خلدون بسقوط الأندلس قبل سقوطها بنحو مائتي سنة؛ لما رأى من تشبه أهلها بغير المسلمين في تلك البلاد، وقد تحقق ما تنبأ به، وهذا مصير كل أمة تتهاون في أصولها وثوابتها ، وعقيدتها ، وثقافتها .

لقد عايشت أمتنا محنـا كثيرة كان بعضها كفيلا بإبادة أي أمة ـ كما حدث زمن التتار وأزمان الحروب الصليبية ـ ، ولكن الأمة صمدت وبقيت بتمسكها بكتابها، وسنة نبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبمحافظتها على إسلامها ظاهرا وباطنـا ؛ بل والأعجب أن هذا التمسك والثبات كان سببـا في أن ينهزم المنتصر، ويخضع للمهزوم بعد فترة وجيزة، فأسلم كثير من التتر وصاروا من جند الإسلام، ولم يمر وقت طويل حتى انتصر المسلمون على التتار، وعاد لأمتنا مكانها ومكانتها لأنها لم تنهزم داخليـا، ولم تمسخ ثقافيـا، كما هو حالنا الآن، فالإحساس بالنقص، والانبهار بالآخرين، والضغط من كل جانب أثمر التنازل لا عن الفروع والشكليات ـ كما يقولون ـ ولكن عن الأصول والبدهيات، وهو ما يظهر لكل ذي عينين، وإن كان يحلو للبعض أن يشكك في هذا ويناطح الصخر فنقول : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) .

إننا نحتاج أن نعتز مرة أخرى بديننا، ونهتم بثقافتنا، ونتمسك بعقيدتنا، ونفخر بانتمائنا للإسلام، فنتمايز به عن الآخرين حتى لو كان هذا التمايز في التأريخ والتقويم.

ومرة أخرى رحمك الله يا عمر .. وكل عام هجري وأنتم بخير.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة