- اسم الكاتب:أ. سيد قطب
- التصنيف:أب .. وأم
البيت مثابة وسكن ؛ وفي ظله تنبت الطفولة ، وتدرج الحداثة ، ومن سماته تأخذ سماتها وطابعها، وفي جوه تتنفس وتتكيف.. وكم من أحداث وحوادث وقعت على مسرح المجتمع، وأثرت في سير التاريخ ، تكمن بواعثها الخفية في مؤثرات بيتية .
والفرد الذي لا يستمتع في بيته بالسلام ، لن يعرف للسلام قيمة ، ولن يتذوق له طعما، ولن يكون عامل سلام ، وفي أعصابه معركة ، وفي نفسه قلق ، وفي روحه اضطراب .
والإسلام يتجه إلى بذر السلام في البيت ، في الوقت الذي يتجه فيه إلى الضمير الفردي ، وإلى المجتمع الدولي.. فكلها حلقات متضامنة؛ وفيما بينها ترابط واتصال
يبدأ الإسلام أولا بتصوير العلاقة البيتية تصويرا رفافا شفيفا ، يشع منه التعاطف ، وترف فيه الظلال ؛ ويشيع فيه الندى ، ويفوح منه العبير :
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . (الروم 21) .
(هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) . (البقرة 187) ، فهي صلة النفس بالنفس ، وهي صلة السكن والقرار، وإنك لتحس في الألفاظ ذاتها حنوا ورفقا ، وتستروح من خلالها نداوة وظلا . وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق . ذلك في الوقت الذي يلحظ في أغراض ذلك الرباط كلها بما فيها امتداد الحياة بالأولاد ، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة ، ويعترف بطهارتها وجديتها، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها، ذلك حين يقول : ( نساؤكم حرث لكم ) (البقرة 223) ، فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار .
فأولا : لا بد في هذا الارتباط من الرضى والاستئذان، فلا تزوج المرأة بغير إذنها ورضاها : [ لا تنكح الثيب حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها صماتها ] [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
ولا بد فيه من الرؤية ليكون هذا الرضى جديا وقائما على حقيقة ، ومنبعثا من شعور : [ فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ] من مصابيح السنة عن المغيرة بن شعبة .
وثانيا: لا بد فيه من علانية وإشهاد، فلا يتم في السر والخفاء كما تتم الجريمة، ولا بد من إيجاب وقبول صريحين يشهد عليهما الشهود ، فلا يبقى ظل من شك أو غموض في قيام هذا الارتباط ، حتى ليستحب دق الطبول لهذه المناسبة زيادة في الإعلان !
وثالثا : لا بد فيه من نية التأبيد لا التوقيت ؛ فإذا نوى أو صرح بأن يكون هذا الزواج موقوتا بزمن لم ينعقد ، لأن هذا الارتباط مقصود به السكن والاستقرار، مقصود به أن يركن إليه الزوجان في اطمئنان، وأن يبنيا في ظله الحياة وهما واثقان آمنان.
ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه؛ ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها… أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها، فالأم المكدودة بالعمل للكسب ، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المشتتة الطاقة فيه.. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها.
وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات، وما يشيع فيها ذلك الأريج الذي يشيع في البيت . فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تنشئها امرأة؛ وأريج البيت لن يفوح إلا أن تطلقه زوجة؛ وحنان البيت لن يشيع إلا أن تتولاه أم والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال!.
إن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيجها الضرورة، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرود والضلال.
وفي سبيل الاستقرار البيتي وقطعا لدابر الفوضى والنزاع فيه، جعل الإسلام القوامة فيه للرجل، وذلك تمشيا مع سياسة التنظيم التي يحرص عليها الإسلام حرصا شديدا، والتي جعلت الرسول يأمر الرجال أن يؤمروا عليهم أحدهم حتى لو خرج ثلاثة في أمر فأحدهم أمير.
إن توحيد القيادة ضروري لأمن السفينة، وفي سفينة البيت لا يد من قيادة تحتمل التبعة ، وتحفظ النظام أن ينتكث، وما في هذا من شذوذ على القاعدة الإسلامية العامة في عالم الرجال أيضا. فأي الزوجين كان المنطق كفيلا بأن يسلمه القيادة؟ المرأة المشبوبة العواطف والانفعال بحكم وظيفتها الأولى في رعاية الأطفال وتعطير جو البيت بالجمال؟ أم الرجل الذي كلفه الإسلام الإنفاق لتخلو المرأة إلى عبئها الضخم، وتنفق فيه طاقتها ووسعها؟
لقد جعل له الإسلام القوامة ، تحقيقا لنظامه المطرد أن تكون في كل عمل قيادة وقوامة، واختاره لأنه بخلقته وتجاربه أصلح الاثنين لهذه الوظيفة .
وهكذا حين تعرض المسألة في بساطتها هذه وفي وضوحها، ينكشف ذلك اللغط الهاذر الذي تلوكه ألسنة الفارغين والفارغات في هذا الزمان حول النظام، ويتجلى أن فراغ الحياة وفراغ القلوب وفراغ العقول، هو الذي ينشئ ذلك اللغط ، ويجعله موضوع جدل ومادة حديث . وهو نظام قصد به الإسلام أن يكون حلقة من حلقات السلام في البيت، وضمانة للاستقرار فيه والنظام . ولكن في عهود الانتكاس، وفي فترات الفراغ من جديات الأمور، لا يبقى للمجتمع ما يحفل به إلا الفتات والقشور، وإلا الهذر واللجاج!