الرحيـــــــل

0 736


باتت أختي شاحبة الوجه نحيلة الجسم .. ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم .. تبحث عنها تجدها في مصلاها .. راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء .. هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل ..

أما أنا فكنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي .. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أنني عرفت به .. ومن أكثر من شئ عرف به .. لا أؤدي واجباتي كاملة ولست منضبطة في صلواتي ..

بعد أن أغلقت جهاز الفيديو وقد شاهدت أفلاما متنوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة .. هاهو الأذان يرتفع في المسجد المجاور ..
عدت إلى فراشي ..
تناديني من مصلاها .. نعم ما ذا تريدين يا نورة ؟ .
قالت لي بنبرة حادة لا تنامي قبل أن تصلي الفجر ..

أوه .. بقى ساعة على صلاة الفجر وما سمعتيه كان الأذان الأول ..

بنبرتها الحنونة – هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش .. نادتني .. تعالي يا هناء بجانبي .. لا أستطيع إطلاقا رد طلبها .. تشعر بصفائها وصدقها لا شك طائعا ستلبي ..
ـ ماذا تريدين ؟..
ـ اجلسي
ـ ها قد جلست ماذا لديك ؟
.. بصوت عذب رخيم : " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ".
سكتت برهة .. ثم سألتني .. ألم تؤمني بالموت ؟
ـ بلى مؤمنة ..
ـ ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة ؟.
ـ بلى ولكن الله غفور رحيم .. والعمر طويل يا أختي .. ألا تخافين من الموت وبغتته ؟. انظري هند أصغر منك وتوفيت في حادث سيارة .. وفلانة .. وفلانة .. الموت لا يعرف العمر .. وليس مقياسا له ..
ـ أجبتها بصوت الخائف حيث مصلاها المظلم .. أنني أخاف من الظلام وأخفتيني من الموت .. كيف أنام الآن ؟.
ـ كنت أظن أنك وافقت للسفر معنا هذه الإجازة ..

فجأة .. تحشرج صوتها واهتز قلبي
لعلي هذه السنة أسافر سفرا بعيدا .. إلى مكان آخر .. ربما يا هناء .. الأعمار بيد الله .. وانفجرت بالبكاء ..
.. .تفكرت في مرضها الخبيث وأن الأطباء أخبروا أبي سرا أن المرض لن يمهلها طويلا .. ولكن من أخبرها بذلك ؟ .. أم أنها تتوقع ..
ـ مالك تفكرين ؟ جاءني صوتها القوي هذه المرة .. هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضة ؟.. كلا .. ربما أكون أطول عمرا من الأصحاء .. وأنت إلى متى ستعيشين .. ربما عشرين سنة .. ربما أربعون سنة ثم ماذا ؟ .. لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة .. لا فرق بيننا كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا إما إلى جنة وإما إلى نار .. ألم تسمعي قول الله : " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " .
تصبحين على خير .. هرولت مسرعة وصوتها يطرق أذني .. هداك الله .. لا تنسي الصلاة ..

الثامنة صباحا ..
أسمع طرقا على الباب .. هذا ليس موعد استيقاظي ..
بكاء .. وأصوات .. ماذا جرى ..
لقد تردت حالة نورة .. وذهب بها أبي إلى المستشفى ..
إنا لله وإنا إليه راجعون ..
لا سفر هذه السنة .. مكتوب علي هذه السنة البقاء في بيتنا .. بعد انتظار طويل ..

عند الساعة الواحدة ظهرا .. هاتفنا أبي من المستشفى .. تستطيعون زيارتها هيا بسرعة.
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير ..

عباءتي في يدي ..
أين السائق .. ركبنا على عجل .. أين الطريق الذي كنت أذهب مع السائق لأتمشى مع السائق فيه ؟ يبدوا قصيرا .. ماله اليوم طويل .. وطويل جدا .. أين ذلك الزحام المحبب إلى نفسي كي ألتفت يمنة ويسرة ؟.. الزحام أصبح قاتلا مملا ..
أمي بجواري تدعوا لها .. إنها بنت صالحة ومطيعة .. لم أرها تضيع وقتها أبدا ..

دلفنا من الباب الخارجي للمستشفى .. هذا مريض يتأوه .. وهذا مصاب بحادث سيارة ، وثالث عيناه غائرتان .. لاتدري هل هم من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة !! منظر عجيب لم أره من قبل ..
صعدنا درجات السلم بسرعة ..
إنها في غرفة العناية المركزة .. وسآخذكم إليها .. ثم واصلت الممرضة إنها بنت طيبة وطمأنت أمي أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها .. ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد ..
هذه هي غرفة العناية المركزة ..

وسط زحام الأطباء ، وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إلى وأمي واقفة بجوارها .. بعد دقيقتين خرجت أمي التي لم تستطيع إخفاء دموعها ..

سمحوا لي بالدخول والسلام عليها بشرط ألا أتحدث معها كثيرا .. دقيقتين كافية لك ..
ـ كيف حالك يانورة .. لقد كنت بخير مساء البارحة .. ما ذا جرى لك ؟
ـ أجابتني بعد أن ضغطت على يدي .. وأنا الآن والله الحمد بخير ..
ـ الحمد لله .. ولكن يدك باردة ..

كنت جالسة على حافة السرير ولا مست ساقها .. أبعدته عني ..
ـ آسفة إذا ضايقتك ..
ـ كلا ولكني تفكرت في قوله تعالى : "والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق " ، عليك يا هناء بالدعاء لي فربما أستقبل عن قريب أول أيام الآخرة .. سفري بعيد وزادي قليل ..

سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت .. لم أع أين أنا .. استمرت عيناي في البكاء .. أصبح أبي خائفا علي أكثر من نورة ..لم يتعودوا هذا البكاء والانطواء في غرفتي ..

مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين .. ساد صمت طويل في بيتنا .. دخلت علي ابنة خالتي .. ابنة عمتي .. أحداث سريعة .. كثر القادمون .. اختلطت الأصوات .. شيء واحد عرفته .. نورة ماتت.. لم أعد أميز من جاء .. ولا أعرف ماذا قالوا ..
يا الله .. أين أنا وماذا يجري ؟ عجزت عن البكاء ..

فيما بعد أخبروني أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير .. وأني قبلتها .. لم أعد أتذكر إلا شيئا واحدا .. حين نظرت إليها مسجاة على فراش الموت .. تذكر قولها " والتفت الساق بالساق " عرفت الحقيقة " إلى ربك يومئذ المساق " .

لم أعرف أنني عدت إلى مصلاها إلا تلك الليلة .. وحينها تذكرت من قاسمتني رحم أمي فنحن توأمين .. تذكرت من شاركتني همومي .. تذكرت من نفست عن كربتي .. من دعت لي بالهداية .. من ذرفت دموعها ليالي طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب .. والله المستعان ..

هذه أول ليلة لها في قبرها .. اللهم ارحمها ونور لها قبرها ..
هذا هو مصحفها .. وهذه سجادتها .. وهذا ..وهذا ..

بل هذا هو الفستان الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي .. تذكرتها وبكيت على أيامي الضائعة .. بكيت بكاء متواصلا .. ودعوت الله أن يرحمني ويتوب علي ويعفو عني .. دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو ..

فجأة سألت نفسي ماذا لو كانت الميتة أنا ؟ ما مصيري ؟
لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني .. بكيت بحرقة ..
الله أكبر ... الله أكبر .. ها هو أذان الفجر قد ارتفع .. لكن ما أعذبه هذه المرة ..

أحسست بطمأنينة وراحة وأنا أردد ما يقوله المؤذن .. لففت ردائي وقمت واقفة أصلي صلاة الفجر .. صليت صلاة مودع .. كما صلتها أختي من قبل وكانت آخر صلاة لها.. إذا أصبحت لا أنتظر المساء .. وإذا أمسيت لا أنتظر الصباح .
...........

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة