- اسم الكاتب:نايف بن عبد العزيز آل سعود
- التصنيف:أركان الدعوة
من المعلوم أن إسداء النصيحة والصبر على الأذى في سبيلها هو أعظم معين ـ بعد الله تعالى ـ في تبليغ دينه وإعلاء كلمته، وأنه لا حظ في النصيحة لمن لا يتحمل الأذى الناجم عن قيامه بأدائها، واستمع لقوله تبارك وتعالى: (يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر)(المدثر:1 - 7) . قال ابن كثير رحمه الله تعالى (قم فأنذر) أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس . وقال مجاهد رحمه الله: (ولربك فاصبر) أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل. وقال سبحانه: (الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)(العنكبوت:1- 3) وقال تعالى : (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم) (الأحقاف: من الآية35) . عاقبته خير وتأمل حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه ،حيث قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط من حديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون " . رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم : " الصبر ضياء " . رواه الترمذي وحسنه. وللبخاري ومسلم مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : " وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر " .
وقال تعالى عن مواقف بعض الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إذ قالوا لأقوامهم لما آذوهم: (ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) (إبراهيم:12) .
فحري بنا أن نصبر في دعوتنا ونتبصر في حال ودعوة الرسل عليهم السلام، لاسيما دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقومه، أخرج من داره من مكة، رجم بالحجارة في الطائف حتى سال دمه، وهاجر إلى المدينة فارا بدعوته، جاهد حتى كسرت رباعيته، وشج وجهه، وكان يؤذى في صلاته وهو بمكة قبل الهجرة، ويوضع السلى على ظهره أثناء ركوعه وسجوده، وما زاده ذلك إلا إصرارا وعزما وثباتا وصبرا . قذف عرضه وما ذلك والله إلا من أجل دعوته، فلولا تلك الدعوة لما أخرج ولما حورب، ولما قذف عرضه، ولم ترده حادثة الإفك ولا غيرها عن دعوته، بل زادته صبرا ويقينا وثباتا، وهذا هو حال كل نبي وكل عالم رباني وكل داعية إلى الله آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ناصحا للأمة .
قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا)(الفرقان:31) ، وقال تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون)(النحل:127) . فبالتقى والثبات والصبر يحصل الفلاح والنصر، قال تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(النحل:128) ، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)(آل عمران:200) ، وقال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)(السجدة:24).
قال سفيان: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، أي في العلم والقدوة، فلولا الصبر والمصابرة والتضحية لما وصلنا هذا الدين إلا أن يشاء الله تعالى، وكان فضل الله علينا عظيما ، إذ قيض لهذا الأمر رجالا حملوه ونشروه ونصحوا له ودافعوا عنه وصبروا وقدموا جماجهم وأرواحهم رخيصة في سبيل نصرة وعزة وإبلاغ دين الله عز وجل.
الأسوة الطيبة
والمتأمل في حال وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم يجد في ذلك أعظم الأسوة والقدوة والتضحية والصبر، فهم كما قال تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)(الأحزاب:23) .
فينبغي عليك أيها الداعية وأيها الناصح وأيها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن تعلم أن الصبر واجب عليك، وأي واجب، بل هو من أعظم الواجبات التي تكرر ذكرها في القرآن العزيز في كثير من المواضيع حين قال سبحانه مبينا أن الإنسان خاسر لا محالة إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع، ولا يجزي بعضها عن بعض، فقال جل شأنه: (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)(العصر:1 - 3) . وقال تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)(البقرة:155) ، وقال تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)(الشورى:43) . وقال: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)(البقرة:153) ، وقال سبحانه: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)(محمد:31)، وقال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)(آل عمران:142) . وقال لقمان لابنه وهو يعظه ويحثه علىالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في ذلك: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)(لقمان:17) .
والآيات والأحاديث في فضل الصبر وثماره كثيرة، فالصابرون على الحق وتبليغه والثابتون أمام العقبات الصعاب قد نالوا أجورا عظيمة، فقد نجوا من الخسارة والحسرات، ونالوا البشائر من رب الأرضين والسماوات،ووعدوا بمعية الله لهم، وذلك في قوله سبحانه: (إن الله مع الصابرين)(البقرة: 153)، ووصفوا بأنهم هم المجاهدون حقا، ووعدوا بأن يوفوا أجورهم بغير حساب، قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)(الزمر:10) .
فما أعظمها من نعمة إذا حصلت، وما أكبرها من حسرة إذا منعت وما حيزت، فمن صبر ظفر، ومن استعجل خسر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط " . رواه الترمذي وحسنه .
فعليك أخي الناصح بالصبر، خاصة إذا لم يقبل منك، فإنما عليك البلاغ والنصح، وليس عليك الإكراه أو النتائج إذا كنت قد أديت ما يلزمك شرعا من اتباع هدي الكتاب والسنة في دعوتك، فقال تعالى: (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد)(ق:45) ، وقال سبحانه: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)(الرعد: من الآية7) ، وقال عز وجل: (فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر)(الغاشية:21، 22) .
والصبر وإن كان فيه مرارة ولكن عواقبه كلها خير وكما قيل:
الصبر مثل اسمه مر مذاقته .. .. لكن عواقبه أحلى من العسل
وقال عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا بالصبر .
وقال علي رضي الله عنه : إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد . ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له .
فلا تكن أيها الناصح عجلا فتخسر ولا ترتكب ما يسبب لك النقد، وذلك بسبب التهور أو العجلة ويكون الحق عليك، أما إن انتقدك ناقد وأنت على الحق المبين فلا تعبأ بقوله، فقد قال تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)(الروم:60) . وكن كما قيل:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا .. .. يؤذى فيعطي أفضل الثمر.
أما إن حدت عن الطريق فتحمل نتائج فعلك، والله المستعان.
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).