أمثال عاقبة الهوى 2-2

0 1796

سبقت الإشارة في الجزء السابق من هذا الموضوع , إلى أن اتباع الهوى المذموم قد يكون في أمور الدين والمعتقد , وهي أهواء الشبهات , وقد يكون في أمور المعاصي وارتكاب المحرمات , وهي أهواء الشهوات , وذكرنا مثالا يشمل هذين النوعين معا على جهة الإجمال ، وهو حديث حذيفة رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم , وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال لهذين النوعين على جهة التفصيل في أحاديث أخرى , فمن الأحاديث التي ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مثلا لاتباع أهواء الشبهات ما جاء عن معاوية رضي الله عنه أنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب , افترقوا على ثنتين وسبعين ملة , وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين , ثنتان وسبعون في النار , وواحدة في الجنة , وهي الجماعة , وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء , كما يتجارى الكلب بصاحبه ,لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) رواه أبو داود .

فهذا المثل الوارد في الحديث يبين خطورة البدع واتباع الأهواء على دين المرء , فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم افتراق الأمم الكتابية قبلنا إلى فرق كثيرة , على الرغم من إرسال الرسل إليهم , وإنزال الكتب عليهم , ومع ذلك فقد حصل بينهم الافتراق والتنازع , ثم بين عليه الصلاة والسلام أن هذه الأمة ستقع فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبل , وستفترق فيما بينها الافتراق المذموم , في المعتقد وأصول الدين , والسبب في الحالتين واحد , وهو اتباع الأهواء , وعدم الاستسلام التام للنصوص الشرعية , والاحتكام للعقول القاصرة والآراء الفاسدة , وبين صلى الله عليه وسلم أنه لن ينجو من هذه الفرق كلها , إلا فرقة واحدة , هي التي تمسكت بما كان عليه هو وأصحابه , قولا وعملا واعتقادا .

ثم شبه النبي صلى الله عليه وسلم خطر أهواء الشبهات , بداء الكلب , وهو داء يصيب الإنسان إذا عضه الكلب , فيصبح كالمجنون , وتظهر عليه مجموعة من الأعراض الخطيرة , ويمتنع المصاب بهذا الداء من شرب الماء حتى يموت عطشا , والمقصود من التمثيل أن صاحب البدعة والهوى يصعب عليه أن يتخلص منهما , إلا أن يشاء الله , فإن البدعة تخالط قلبه ,كما يخالط داء الكلب صاحبه ,حتى لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله , وهو أيضا يؤثر في غيره بما يلقيه من الشبه والشكوك , كما يؤثر المصاب بهذا الداء على غيره إذا عضه , ولذلك عبر صلى الله عليه وسلم بقوله: ( تتجارى بهم تلك الأهواء ) , أي أنها تنتشر بينهم بسرعة كانتشار النار في الهشيم , فيتلقفونها , ويتأثرون بها , وهي سمة مشتركة بين أهل البدع , نسأل الله العافية .

ومن الأحاديث التي ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مثلا لاتباع أهواء الشهوات , حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنما مثلي ومثل الناس ,كمثل رجل استوقد نارا , فلما أضاءت ما حوله , جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها , فجعل ينزعهن, ويغلبنه فيقتحمن فيها , فأنا آخذ بحجزكم عن النار ,وهم يقتحمون فيها ) رواه البخاري.

وهذا المثل يبين خطورة اتباع الشهوات , والانسياق وراء اللذات المحرمة , فقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم فيه حاله مع أمته , برجل أوقد نارا , بغرض الإضاءة وطلب الدفء, فلما أضاءت ما حوله تهافتت الفراش والحشرات على مصدر هذا الضوء , لجهلها وعدم تقديرها لمصالحها , وهي لا تعلم أن فيه حتفها وهلاكها , فجعل الرجل يذودها ويذبها عن النار لئلا تحرقها , فلا تستجيب له , بل غلبته وتقحمت هذه النار , واستخدم صلى الله عليه وسلم لفظ الاقتحام , الذي يعبر به عن إلقاء النفس في الهلاك , من غير روية وتثبت , ومقصود المثل تشبيه أصحاب المعاصي , الذين يندفعون وراء أهوائهم وشهواتهم , من غير روية ولا تفكير في العاقبة , بهذه الحشرات التي بهرها ضوء النار , فسعت إلى ما فيه هلاكها , وأنه صلى الله عليه وسلم بما بعث به من الهداية والنور كالممسك بحجزهم , وهي معاقد الإزار من وسط الإنسان , لئلا يقعوا في نار جهنم , التي حفت بالشهوات , كما أخبر صلى الله عليه وسلم , ومع ذلك فإنهم يغلبون هواهم , وحرصهم على تحصيل تلك اللذات والشهوات , فيتفلتون من يده , ويقتحمون هذه النار.

وفي الحديث بيان لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة , كما قال الله عنه : { حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } (التوبة: 128) .

فهذه الأحاديث تبين عاقبة اتباع أهواء الشبهات والشهوات , وهي تحث المسلم على أن يجاهد هواه , وأن يكون متيقظا لنفسه , نسأل الله أن يحفظنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا والحمد لله رب العالمين .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة