الهجرة النبوية إلى المدينة

1 1674

بينما ينظر البعض إلى الهجرة كذكريات عطرة تتجدد كل عام ، يرى الحكماء وأصحاب العقول الراجحة في هذا الحدث نصرا يضاف إلى رصيد الجماعة المؤمنة ، وهروبا من حياة الظلم والاستعباد ، إلى الحياة الحرة الكريمة ، وبداية مرحلة جديدة من الصراع بين الإسلام والكفر ، والحق والباطل ، حتى صار تاريخا للمسلمين يؤرخون به أحداثهم .

وللوقوف على أهمية الحدث ، واستشعار أبعاده ، يجدر بنا أن نعود إلى الوراء بضعة عشر قرنا من الزمان ، وتحديدا في العام الثالث عشر من البعثة ، حين نجحت جموع المؤمنين في الخروج من مكة ، واستطاعت أن تتغلب على المصاعب والعقبات التي زرعتها قريش للحيلولة دون وصولهم إلى أرض يثرب ، ليجدوا إخوانهم الأنصار قد استقبلوهم ببشاشة وجه ورحابة صدر ، وفتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم ، مما كان له أعظم الأثر في نفوسهم ، ولم يبق في مكة سوى نفر قليل من المؤمنين ما بين مستضعف ومفتون ومأسور .

وهنا أحست قريش بالمخاطر التي تنتظرهم ، وأدركت أنها لن تستطيع  تدارك الموقف وإعادة الأمور إلى نصابها إلا بالوقوف بأي وسيلة دون إتمام هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم  -.

ونتيجة لذلك ، كانت المؤامرات تدور في الخفاء للقضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم  - ، ففي يوم الخميس من شهر صفر اجتمع المشركون في دار الندوة وتشاوروا في الطريقة المثلى لتحقيق مقصودهم ، فمن قائل بضرورة قتله عليه الصلاة والسلام والتخلص منه ، وآخر بحبسه وإحكام وثاقه ، وثالث بنفيه وطرده ، حتى اتفقت الآراء على قتله ، ولكن بطريقة تعجز بنو هاشم معها عن أخذ الثأر ، وذلك بأن تختار قريش صفوة فتيانها من جميع القبائل فيقوموا على النبي - صلى الله عليه وسلم  - قومة رجل واحد ويقتلوه ، ليتفرق دمه بين القبائل ، وفي هذه الحالة لن تستطيع بنو هاشم أن تقاتل سائر الناس ، ولن يبقى أمامها سوى خيار واحد هو قبول الدية ، وصدق الله عزوجل إذ يقول : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } ( الأنفال : 30 ) .

ولم تكن قريش لتعلم أن الله سبحانه وتعالى أذن لنبيه بالهجرة إلى المدينة ، فبينما هم يبرمون خطتهم ويحيكون مؤامرتهم كان النبي - صلى الله عليه وسلم  - قد استعد للسفر ، وانطلق إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة متخفيا على غير عادته ، ليخبره بأمر الخروج .

وخشي أبو بكر رضي الله عنه أن يحرم شرف هذه الرحلة المباركة ، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم  - في صحبته فأذن له ، فبكى رضي الله عنه من شدة الفرح، وكان قد جهز راحلتين استعدادا للهجرة ، فلما أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم  -بقرب الرحيل قام من فوره واستأجر رجلا مشركا من بني الديل يقال له عبد الله بن أريقط ، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما ، واتفقا على اللقاء في غار ثور بعد ثلاث ليال ، في حين قامت عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما بتجهيز المتاع والمؤن ، ووضعا السفرة في وعاء ، وشقت أسماء نطاقها نصفين لتربط السفرة بنصفه وقربة الماء بالنصف الآخر ، فسميت من يومها بذات النطاقين .

وتسارعت الأحداث ، وحانت اللحظة المرتقبة ، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم  -متخفيا إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ، وكان الميعاد بينهما ليلا ، فخرجا من فتحة خلفية في البيت ، وفي الوقت ذاته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم  - علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يتخلف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم ، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة ؛ من أجل إيهام قريش .

ونجح النبي - صلى الله عليه وسلم  - وصاحبه في الفرار من بين أيديهم ، ولم يكشتفوا الأمر إلا عندما أصبح الصباح وخرج عليهم علي رضي الله عنه وهو لابس بردة النبي - صلى الله عليه وسلم  -، فجن جنونهم ، وأحاطوا به يسألونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم  - وهو يتظاهر بالدهشة وعدم معرفته بمكانه ، وانطلقت قريش مسرعة إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، لأنهم يعلمون أنه صاحبه ورفيق دربه ، ولابد أن يصلوا من خلاله إلى معلومة تقودهم إلى وجهته ، إلا أنهم فوجئوا برحيله هو الآخر ، فساءلوا أسماء عن والدها ، فأبدت جهلها ، فغضب أبو جهل لعنه الله ولطمها لطمة أسقطت الحلي من أذنها .

وبدأت محاولات المطاردة للنبي - صلى الله عليه وسلم  -، فقاموا بمراقبة جميع منافذ مكة مراقبة دقيقة ، وأعلنوا بين أفراد القبائل جائزة ثمينة لمن يأتي به حيا أو ميتا ، وأرسلوا كل من له خبرة بتتبع الآثار ، وانطلقت جموعهم شمالا علهم يقفوا له على أثر .

وخالف النبي - صلى الله عليه وسلم  - بذكائه وحنكته كل توقعاتهم ، فلم يتجه صوب المدينة مباشرة ، بل ذهب إلى جهة الجنوب حتى بلغ جبلا وعرا يقال له " جبل ثور " ، يوجد في أعلاه غار يصعب الوصول إليه ، ويمكنهم المكوث فيه إلى أن يهدأ الطلب .

وقادت الجهود قريشا إلى غار ثور ، وصعدوا إلى باب الغار ، وبات الخطر وشيكا ، وبلغت أصواتهم سمع أبي بكر فقال رضي الله عنه : " يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا " ، فأجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم  - إجابة الواثق المطمئن بموعود الله : (  يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ ) ، وصدق ظنه بربه ، فإن قريشا استبعدت وجود النبي - صلى الله عليه وسلم  - في هذا المكان ، و انصرفت تجر أذيال الخيبة .

وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم  -في الغار ثلاث ليال ، وكان عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما يأتي كل يوم ليبلغهما أخبار قريش ، و عامر بن فهيرة يأتي بالأغنام ليشربا من لبنها ، ويخفي آثار عبدالله بن أبي بكر ، حتى جاء عبدالله بن أريقط في الموعد المنتظر ، ومعه رواحل السفر .

وفي ليلة الإثنين من شهر ربيع الأول انطلق الركب إلى المدينة متخذا طريق الساحل ، وظلوا يسيرون طيلة يومهم ، و أبو بكر رضي الله عنه يمشي مرة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم  - ، ومرة خلفه ، ومرة عن يمينه ، ومرة عن يساره ، خوفا عليه من قريش ، حتى توسطت الشمس كبد السماء ، فنزلوا عند صخرة عظيمة واستظلوا بظلها ، وبسط أبو بكر رضي الله عنه المكان للنبي - صلى الله عليه وسلم  - وسواه بيده لينام ، وبينما هم كذلك إذ أقبل غلام يسوق غنمه قاصدا تلك الصخرة ، فلما اقترب قال له أبوبكر رضي الله عنه : لمن أنت يا غلام ؟ ، فقال : لرجل من أهل مكة ، فقال له : أفي غنمك لبن ؟ ، فقال : نعم ، فحلب للنبي - صلى الله عليه وسلم  -في إناء ،  فشرب منه حتى ارتوى .

وفي هذه الأثناء استطاع أحد المشركين أن يلمح النبي - صلى الله عليه وسلم  - من بعيد ، فانطلق مسرعا إلى سراقة بن مالك وقال له : يا سراقة ، إني قد رأيت أناسا بالساحل ، وإني لأظنهم  محمدا وأصحابه ، فعرف سراقة أنهم هم ، ولكنه أراد أن يقنع الرجل بأنه واهم حتى يفوز بالجائزة وحده ، ولبث سراقة في المجلس ساعة حتى لا يثير انتباه من معه ، ثم تسلل من بينهم وأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعا ، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط ، فتشاءم من سقوطه ، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق ، فسقط مرة ثانية وتعاظم شؤمه ، لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته هواجسه ومخاوفه ، ولما اقترب من النبي - صلى الله عليه وسلم  - غاصت قدما فرسه في الأرض إلى الركبتين ، وتصاعد الدخان من بينهما ، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله ، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم ، وكتب له النبي - صلى الله عليه وسلم  - كتاب أمان ووعده بسواري كسرى ، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحدا يبحث عن النبي - صلى الله عليه وسلم  -إلا أمره بالرجوع ، وكتم خبرهم حتى وصلوا إلى المدينة .

وفي طريقهم إلى المدينة نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم  -وصاحبه بخيمة أم معبد ، فسألاها إن كان عندها شيء من طعام ونحوه ، فاعتذرت بعدم وجود  شيء سوى شاة هزيلة لا تدر اللبن ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم  -الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها ، ثم حلب في إناء ، وشرب منه الجميع ، وكانت هذه المعجزة سببا في إسلامها هي وزوجها .

وانتهت هذه الرحلة بما فيها من مصاعب وأحداث ، ليصل النبي - صلى الله عليه وسلم  -إلى أرض المدينة ، يستقبله فيها أصحابه الذين سبقوه بالهجرة ، وإخوانه الذين أعدوا العدة لضيافته في بلدهم ، وتلك وقفة أخرى .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة