- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:من بدر إلى الحديبية
" حم ، لا ينصرون " كان ذلك هو شعار المسلمين في غزوة فريدة في أحداثها ووقائعها ، وفي الأطراف التي شاركت فيها ، وفي النتائج التي خرجت بها ، فهي الغزوة التي استخدم فيها المسلمون خندقا لحماية المدينة ، وشهدت تحالفا قويا بين المكر اليهودي والطغيان القرشي ، وواجه المسلمون فيها أكبر تجمع لأهل مكة ومن جاورها من القبائل العربية .
وقعت أحداث هذه الغزوة في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة ، وكان المحرك لها يهود بني النضير بعد إجبار المسلمين لهم على الخروج من المدينة ليسكنوا أرض خيبر عقابا على خيانتهم وغدرهم ، مما أثار في قلوبهم مشاعر الحقد والغيظ ، فأخذوا يحيكون المؤامرات والدسائس للقضاء على المسلمين ، وإنهاء سيطرتهم على المدينة .
وكان أول ما خطر ببالهم الاستعانة بأهل مكة ؛ لعلمهم بإمكاناتهم العسكرية وعلاقاتهم الواسعة بمن جاورهم من القبائل ، فانطلق وفد منهم بقيادة سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وأبي عمار الوائلي ، وغيرهم من قيادات اليهود ، وقاموا بتحريض قريش على قتال النبي – صلى الله عليه وسلم - ، ووعدوهم بالنصرة والمساندة ، وبالغوا في مدحهم ومجاملتهم على حساب الدين حتى شهدوا بأن ما عليه قريش من الشرك والضلال خير وأهدى سبيلا مما عليه المؤمنون ، فنزل القرآن مبينا أمرهم في قوله سبحانه : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } ( النساء : 51 ) .
ووافق تحريض اليهود هوى في نفوس أهل مكة ، ورغبة في القضاء على الوجود الإسلامي في المدينة ، والخروج من الضائقة الاقتصادية التي أصابتهم بفعل التعرض المستمر لقوافلهم التجارية على يد الصحابة ، إضافة إلى أنهم وجدوا في ذلك فرصة للإيفاء بالوعد الذي قطعوه يوم أحد بالعودة لقتال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .
وهكذا التقت مصالح الفريقين ، وقامت قريش بمراسلة حلفائها من بني أسد وبني سليم وكنانة وغطفان وغيرها ، فاجتمع جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل ، وعاد الوفد اليهودي مسرورا بهذه الأعداد الهائلة التي سارت متجهة صوب المدينة .
وجاءت الأخبار إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باقتراب الأحزاب من المدينة ، فعقد اجتماعا عاجلا مع كبار المهاجرين والأنصار لمناقشة ما ينبغي فعله لصد العدوان ، فاتفقت آراؤهم على ضرورة الخروج إلى تلك القوات ومنعها من الوصول ، لكن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان له رأي آخر ، حيث أشار على النبي – صلى الله عليه وسلم – بحفر خندق كبير كما كانوا يفعلونه في أرض فارس ، فأعجب النبي – صلى الله عليه وسلم – بفكرته ، وأمر بحفر الخندق في شمال المدينة ، وذلك لأن بقية الجهات كانت محصنة بالبيوت المتقاربة والأشجار المتشابكة ، والأراضي الصخرية ، التي تحول دون دخول المشركين وتقدمهم .
وتم تقسيم المسؤولية بين الصحابة بحيث تولى كل عشرة منهم حفر أربعين ذراعا ، ثم بدأ العمل بهمة وعزيمة على الرغم من برودة الجو وقلة الطعام ، وزاد من حماسهم مشاركة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الحفر ونقل التراب .
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقضون الأوقات بترديد الأشعار المختلفة ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يشاركهم في ذلك ، فكانوا يقولون :
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وهو يجيبهم بقوله :
اللهم إن العيش عيش الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكان – صلى الله عليه وسلم – يردد أبيات عبدالله بن أبي رواحة رضي الله عنه :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
وقد شهدت تلك الأيام كثيرا من المعجزات ، كإخبار النبي – صلى الله عليه وسلم – بالأمور الغيبية ، وذلك عندما واجه الصحابة أثناء الحفر صخرة عظيمة لم يتمكنوا من كسرها، فضربها النبي - صلى الله عليه وسلم – بفأسه وقال : ( بسم الله ) ، فسطع منها وميض قوي وانكسر ثلثها ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا ) ، ثم ضربها مرة أخرى فسطع منها الوميض مرة أخرى وانكسر ثلثها الثاني ، فقال : ( الله أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر المدائن ، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا ) ، وعلى إثر الضربة الثالة تحولت تلك الصخرة إلى فتات ، وبشر النبي - صلى الله عليه وسلم – بوصول دعوته إلى اليمن ، وجاءت أيام الفتح الإسلامي لتشهد على صدق تلك البشارات النبوية .
ومن هذا الباب أيضا ، إخباره - صلى الله عليه وسلم – بمقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه ، فقد ورد في صحيح البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : ( ويح عمار ؛ تقتله الفئة الباغية ) ، وقتل رضي الله عنه أيام خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
ووقف الصحابة رضوان الله عليهم أيضا على معجزات أخرى ، كان فيها تخفيف للشدة والجوع الذي شهدوه ، فبعد مرور ثلاثة أيام في الحفر ونقل الحجارة وشدة الجوع ، حتى ربط النبي - صلى الله عليه وسلم – والصحابة الحجارة على بطونهم من شدة الجوع ، رأى جابر المعاناة في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - فعظم عليه ذلك ، واستأذنه في الذهاب إلى البيت ، فقص على زوجته ما رآه ، وطلب منها أن تصنع الطعام لضيافة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذت الشعير الذي ادخرته فطحنته وصنعت منه طعاما ، وذبح جابر رضي الله عنه عنزة كانت لديه وجعلها في القدر ، ولما نضج اللحم انطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – وكلمه سرا بالحضور مع رجل أو رجلين على الأكثر نظرا لقلة الطعام ، فإذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم – يصيح بأعلى صوته داعيا كل من كان في الخندق للحضور معه ، ثم أمر جابرا بعدم المساس بالطعام .
ورأت زوجة جابر جموع المهاجرين والأنصار وهي مقبلة فعاتبت زوجها ، فأخبرها أن النبي - صلى الله عليه وسلم – هو من قام بدعوتهم ، ودخل الصحابة بيت جابر رضي الله عنه ، والنبي عليه الصلاة والسلام يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ثم يغطي القدر ، ولم يزل كذلك حتى أكلوا جميعا وشبعوا ، وبقي شيء من الطعام في القدر فكان من نصيب أهل جابر .
واكتمل بناء الخندق خلال عشرين يوما ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم – النساء والصبيان في إحدى حصون بني حارثة لحمايتهم , ثم أمر بتنظيم دوريات لحراسة المدينة من جميع الجهات ، وعين سلمة بن أسلم الدوسي رضي الله عنه لتولي الحراسة عند الخندق، وأرسل مع زيد بن حارثة رضي الله عنه مائتي رجل لمراقبة الجهة الجنوبية .
وفي تلك الأثناء كان حيي بن أخطب من بني النضير يقوم بمهمة خطيرة ، فقد ذهب إلى بني قريظة ليضمهم إلى معسكره ضد المسلمين ، مستفيدا من موقعهم المتميز في جنوب المدينة ، واستطاع بعد محاولات كثيرة إقناعهم في نقض عهدهم مع النبي – صلى الله عليه وسلم - ، بعد أن أغراهم بكثرة الأحزاب وقوتها ، ووعدهم بالحماية بعد انتهاء الحرب ورحيل الجيوش .
ولما وصلت الأخبار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – بنقض بني قريظة للعهد ، أرسل سعد بن معاذ و سعد بن عبادة ومعهما عبدالله بن رواحة و خوات بن جبير رضي الله عنهم للوقوف على حقيقة الأمر ، والتأكد من صحة الخبر ، ولما دنوا منهم وجدوا أنهم قد نقضوا العهد ومزقوا الوثيقة ، وجاهروا بالسب والعداوة ، وأظهروا استعدادهم للحرب ، فعاد الصحابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – مؤكدين له غدرهم وخيانتهم .
وانتشر الخبر بين المسلمين فعظم عليهم البلاء ، وأصابهم الكرب الشديد ، فقد كانت المدينة مكشوفة من الجنوب على بني قريظة ، وزاد من خوفهم وجود بعض النساء والذراري في حصون اليهود ، وقد وصف الله تعالى تلك اللحظات العصيبة بقوله : { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } ( الأحزاب : 10 – 11 ) .
وكان للمنافقين دور في زيادة المحنة ، وذلك بالسخرية من المؤمنين وبث روح الهزمية والتخذيل فيهم ، كما قال تعالى : { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } ( الأحزاب : 12 ) ، واستأذن كثير منهم النبي – صلى الله عليه وسلم – في العودة إلى ديارهم بحجة أنها مكشوفة للأعداء ، وغرضهم في الحقيقة إنما هو الفرار من أرض المعركة .
وأمام هذه الضغوط المتزايدة ، أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعقد مصالحة مع غطفان للعدول عن الحرب مقابل أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ؛ فاستشار زعيمي الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما ، فقالا : " لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف " ، فاستحسن النبي – صلى الله عليه وسلم – قولهما ، وتراجع عن رأيه .
ووصلت جموع الأحزاب إلى المدينة ، ليفاجؤوا بوجود خندق يحول بينهم وبين اقتحامها ، فلم يكن أمامهم سوى ضرب الحصار على المسلمين ، والبحث عن فرجة تمكنهم من الدخول، لكن المسلمين كانوا يقظين لمحاولاتهم ، فكانوا يرمونهم بالسهام لمنعهم من الاقتراب .
واستمرت المناوشات بين الفريقين طيلة أيام الحصار ، تمكن خلالها خمسة من المشركين من اقتحام الخندق ، فقتل منهم اثنان وفر الباقون ، واستشهد بعض المسلمين ، كان منهم سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي أصيب في ذراعه ، فدعا الله عزوجل أن يطيل في حياته حتى يقر عينه في بني قريظة ، فاستجاب الله دعاءه ومات بعد أن حكم فيهم بحكم الله .
ونظرا للضربات المتواصلة من المشركين ، اضطر المسلمون في بعض الأحيان إلى تأخير الصلاة، وربما فاتهم وقتها بالكلية ، حتى دعا النبي – صلى الله عليه وسلم – عليهم بقوله : ( ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة حتى غابت الشمس ) رواه البخاري .
وطال الحصار ، واشتد البلاء ، فرفع النبي – صلى الله عليه وسلم - يديه إلى السماء وقال : ( اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم ) ، فاستجاب الله دعاء نبيه ، وساق له الفرج من حيث لا يحتسب ، فأقبل نعيم بن مسعود الغطفاني معلنا إسلامه واستعداده لخدمة المسلمين ، وقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذل عنا إن استطعت ؛ فإن الحرب خدعة ) ، فذهب نعيم إلى بني قريظة واستطاع إقناعهم بضرورة أخذ رهائن من قريش وحلفائها تحسبا لأي انسحاب مفاجيء منهم ، وبذلك يضمنون استمرار الحرب ، ثم ذهب إلى قريش وغطفان وأظهر لهم إخلاصه ونصحه ، وأخبرهم بندم اليهود على ما كان منهم من نقض للعهد ، وإبلاغهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بالعزم على أخذ رهائن من قريش ودفعها إليه إظهارا لحسن نيتهم ، وهكذا استطاع أن يزرع الشكوك بين الأطراف المتحالفة ، مما أدى إلى تفرق كلمتهم ، وضعف عزيمتهم .
وتم النصر للمؤمنين عندما هبت عواصف شديدة اقتلعت خيام الكفار وأطفأت نيرانهم وقلبت قدورهم ، وأنزل الله الملائكة تزلزلهم ، وتلقي الرعب في قلوبهم ، كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } ( الأحزاب : 9 ) .
وأرسل النبي – صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يستطلع الأخبار، فرأى أبا سفيان وهو ينادي الناس بالرحيل ، فعاد حذيفة يبشر النبي – صلى الله عليه وسلم – بانسحاب الكفار ، ففرح المسلمون بذلك فرحا عظيما ، وحمد النبي – صلى الله عليه وسلم – ربه وقال : ( لا إله إلا الله وحده أعز جنده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) .
وانتهت المعركة بانتصار المسلمين على الرغم من كثرة عدوهم ، ودخل اليأس في قلوب كفار مكة من القضاء على دولة الإسلام ، وكشفت الغزوة عن حقيقة اليهود وحقدهم ، ومكر المنافقين وخبثهم ، وكانت سببا في تحول موقف المسلمين من الدفاع إلى الهجوم حتى استطاعوا خلال سنين قليلة من فتح مكة ، وتوحيد العرب تحت راية الإسلام .