- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:المقالات
كانت هذه المعركة بالعراق نظير معركة اليرموك التي وقعت بالشام، وقد بدأت فصولها عندما انهزم المسلمون أمام الفرس في وقعة "الجسر" وذلك في شعبان سنة (13هـ) فبلغ الخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فندب الناس إلى الانضواء تحت قيادة المثنى بن حارثة الذي انحاز بالمسلمين غربي نهر الفرات، وأرسل إلى من بالعراق من أمراء المسلمين يطلب منهم الإمداد، وأرسل إلى عمر فبعث إليه بمدد كثير فيهم جرير بن عبد الله البجلي على رأس قبيلته "بجيلة"، كما أرسل كلا من هلال بن علقمة و عبدالله بن ذي السهمين ومعهما طائفة من الرباب وأفراد من قبائل خثعم ، ولما وفد إلى عمر رضي الله عنه ربعي بن عامربن خالد و عمر بن ربعي بن حنظلة في نفر من قومهما ألحقهما بالعراق، لتتوالى الوفود في نصرة إخوانهم ومدهم بالقوة والسلاح.
وترامت الأنباء إلى رستم قائد الفرس بأن المسلمين قد حشدوا له الحشود، فجهز جيشا عظيما بقيادة مهران الهمداني ، ولما سمع المثنى بذلك كتب إلى أطراف الجيش الذين قدموا لنجدته قائلا لهم: "إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم "البويب" -وهو مكان بأرض العراق قريب من الكوفة اليوم ـ" فتوافوا جميعا هناك في شهر رمضان سنة (13هـ).
وكان مهران قد وقف في الجهة المقابلة لنهر الفرات، وأرسل إلى المثنى يقول له: "إما أن تعبر إلينا، وإما أن نعبر إليك"، فقال له المثنى: "بل اعبروا إلينا"، فعبر مهران فنزل على شاطىء الفرات، وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف مع كل صف فيل، ولهم زجل وصياح: فقال المثنى لأصحابه: "إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت". ثم عبأ المثنى جيشه وأمرهم بالإفطار ليتقووا على عدوهم فأفطروا، وطاف بين الصفوف وهو على فرسه، فجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء والقبائل يحرضهم، ويرفع معنوياتهم، ويحثهم على الجهاد والصبر، ويثني عليهم بأحسن ما فيهم، وكلما مر على صف قال لهم: "إني لأرجو ألا يؤتى الناس من قبلكم بمثل اليوم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم"، فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم من نفسه في القول والفعل، وخالط الناس فيما يحبون وما يكرهون، فاجتمع الناس عليه، ولم يعب له أحد قولا ولا فعلا، وفي ذلك دلالة بينة على حنكته في قيادة جنده وحسن تدبيره، حيث حرص على استمالة قلوب جنده مما يكون له أثر بالغ في وحدة الصف وقوة التلاحم بين أفراد الجيش.
ثم قال لهم: إني مكبر ثلاثا فتهيئوا، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا، فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس وحملوا عليهم، فالتحم الفريقان واقتتلوا قتالا شديدا، وعندها رأى المثنى خللا في بعض صفوفه فبعث إليهم رجلا يقول لهم : "الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: "لا تفضحوا المسلمين اليوم" فتماسكوا واعتدلوا وضحك المثنى إعجابا منه بصنيعهم، ثم بعث في الناس من يقول: "يا معشر المسلمين عاداتكم ، انصروا الله ينصركم"، فجعلوا يدعون الله بالنصر والظفر.
ولما طال القتال جمع المثنى نفرا من أصحابه الشجعان يحمون ظهره، وحمل هو على مهران فأزاله عن موضعه حتى أدخله في الميمنة، وزاد المثنى من ضغطه على العدو حتى اختلطت الصفوف، واشتد القتال. وفي أثناء ذلك أصيب مسعود بن حارثة قائد مشاة المسلمين وأخو المثنى ، ولم تزل جراحه تنزف حتى فارق الحياة، ورأى المثنى ما أصاب أخاه فقال للناس: "يا معشر المسلمين! لا يرعكم مصرع أخي؛ فإن مصارع خياركم هكذا".
ثم تقدم المسلمون نحو قلب الجيش بما فيهم المثنى وكوكبة من فرسان الجيش، وحمل المنذر بن حسان بن ضرار الضبي على مهران فطعنه، واجتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي ، فتضعضع جيش الفرس، وحاولوا الفرار ولحق المسلمون في إثره، وكان المثنى قد سبق إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من العبور عليه، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى قيل: إنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف، وبقيت جثث القتلى وعظامهم دهرا طويلا، وسمي هذا اليوم بيوم الأعشار، فقد وجد من المسلمين مائة رجل، كل رجل منهم قتل عشرة من الفرس.
وهكذا أذل الله رقاب الفرس، واقتص منهم المسلمون بعد الهزيمة التي لحقت بهم في معركة "الجسر"، ومهدت وقعة "البويب" للفتوحات في بلاد العراق، والقضاء على الإمبراطورية الفارسية.