معركة الزلاقة 479 هـ

0 1051

ظلت الأندلس فترة من الزمان تحت حكم الخلافة الأموية منذ أن فتحها المسلمون في عهد الوليد بن عبد الملك ، وبعد سقوط دولة الأمويين أسس عبد الرحمن الداخل خلافة أموية بالأندلس استمرت قرابة ثلاثة قرون، ثم انقسمت إلى دويلات وأقاليم صغيرة، وانفرد كل حاكم بإقليم منها، فيما عرف بعد ذلك بعصر ملوك الطوائف، وانشغل الحكام بعضهم ببعض، واشتعلت بينهم النزاعات والخلافات، مما أغرى بهم عدوهم من الأسبان النصارى الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر. فسقطت طليطلة التي كان يحكمها بنو ذي النون في يد ألفونسو النصراني ملك "قشتالة"، بعد أن خذلها ملوك الطوائف ولم يهبوا لنصرتها بسبب خوفهم من  ألفونسو ، وبسبب المعاهدات التي أبرموها معه، وصل الحال ببعضهم إلى أن يدفع له الجزية، مقابل أن يكف اليد عنه وعن بلاده.

وفي الوقت الذي كان فيه ملوك الطوائف منقسمون على أنفسهم، يتآمر كل واحد منهم ضد الآخر، ويستعين بالنصارى ضد إخوانه من أجل الحفاظ على ملكه وسلطانه، كان النصارى قد بدؤوا في توحيد صفوفهم والاجتماع على كلمة سواء، من أجل هدف واحد وهو القضاء على الوجود الإسلامي في بلاد الأندلس.

وبعد استيلاء  ألفونسو على "طليطلة" أصبح مجاورا لمملكة "إشبيلة" التي كان يحكمها المعتمد بن عباد ، فبالغ في إذلاله وإهانته، حتى إنه أرسل إليه يهوديا ليأخذ منه الجزية، فرفض تسلمها بحجة أنها من عيار ناقص، وهدد بأنه إذا لم يقدم له المال من عيار حسن فسوف تحتل مدائن "إشبيلية"، فضاق المعتمد ذرعا باليهودي وأمر بصلبه وسجن أصحابه، وبلغ الخبر  ألفونسو فازداد حنقا وغيظا على المعتمد ، وبعث جنوده للانتقام والقيام بعمليات السلب والنهب، وأغار هو على حدود "إشبيلية" وحاصرها ثلاثة أيام ثم تركها، وفي أثناء ذلك أرسل له رسالة يتهكم فيها ويقول فيها: "كثر - بطول مقامي - في مجلسي الذباب، واشتد علي الحر، فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بها عن نفسي وأطرد بها الذباب عن وجهي"، فأخذ المعتمد الرسالة وكتب على ظهرها: "قرأت كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية تروح منك لا تروح عليك إن شاء الله تعالى"، فارتاع لذلك وفهم مقصود الرسالة.

وكان المعتمد قد عزم على الاستعانة بدولة المرابطين وأميرها يوسف بن تاشفين لمواجهة  ألفونسو ، فاجتمع بأمراء الطوائف وعرض عليهم الأمر، ولكنهم أبدوا تخوفهم من أن يسيطر ابن تاشفين على بلاده وينفرد بالسلطان دونه، فقالوا له: "الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد"، وقال له ولده: "يا أبت أتدخل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدد شملنا" ، فقال المعتمد : "أي بني والله لا يسمع عني أبدا أني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى فتقوم اللعنة علي في الإسلام مثلما قامت على غيري"، وقال: "يا قوم إني من أمري على حالتين: حالة يقين وحالة شك ولا بد لي من إحداهما، أما حالة الشك: فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش فيمكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن ألا يفعل، فهذه حالة شك، وأما حالة اليقين: فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه؟!"، ثم قال كلمته المشهورة التي سجلها التاريخ: "رعي الجمال عندي - والله - خير من رعي الخنازير".

فأجاب ابن تاشفين النداء وقال: "أنا أول منتدب لنصرة هذا الدين"، وعبر البحر في جيش عظيم، ولما علم  ألفونسو بتحرك ابن تاشفين كتب إليه يهدده ويتوعده ، فرد عليه ابن تاشفين بقوله: "الذي يكون ستراه".

فلما عاد الكتاب إلى ألفونسو ارتاع لكلامه، فزاد استعدادا وتأهبا، حتى رأى في منامه كأنه راكب فيلا، وبين يديه طبل صغير، وهو ينقر فيه، فقص رؤياه على القسيسين، فلم يعرف تأويلها أحد، فأحضر رجلا مسلما، عالما بتعبير الرؤيا، فقصها عليه، فاستعفاه من تعبيرها، فلم يعفه، فقال: "تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله العزيز، وهو قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } (الفيل:1) وقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور *  فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير } (المدثر:8-10) ويقتضي هلاك هذا الجيش الذي تجمعه".

ولبث ابن تاشفين في "إشبيلية" ثمانية أيام يرتب القوات ويعد العدة، وكان مكثرا من التعبد والصيام والقيام وأعمال البر، ثم غادر "إشبيلية" إلى "بطليوس"وكان  ألفونسو في أثناء ذلك مشغولا بقتال ابن هود أمير "سرقسطة"، فلما بلغه الخبر استنفر الصغير والكبير للقتال، ولم يدع أحدا في أقاصي مملكته يقدر على القتال إلا استنهضه، وتجمع النصارى من شمالي إسبانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، معهم القسس والرهبان يحرضونهم على القتال. فلما اجتمع جيشه رأى كثرته فأعجبته، فأحضر ذلك المعبر، وقال له: "بهذا الجيش ألقى إله  محمد ، صاحب كتابكم"، فانصرف المعبر، وقال لبعض المسلمين: هذا الملك هالك وكل من معه، وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث مهلكات )... وفيه:  ( وإعجاب المرء بنفسه ) رواه الطبراني في "الأوسط".

ثم كان التقاء الفريقين في سهل "الزلاقة" بالقرب من "بطليوس" وكان جيش المسلمين ثمانية وأربعين ألفا نصفهم من الأندلسيين ونصفهم من المرابطين، وجيش ألفونسو مائة ألف من المشاة، وثمانون ألفا من الفرسان. ولبث الجيشان ثلاثة أيام، تبادل الفريقان فيها الرسائل فكتب ابن تاشفين إلى  ألفونسو يدعوه إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فاختار القتال، وكتب إليه  ألفونسو يقول له: "الجمعة لكم ، والسبت لليهود وهم وزراؤنا وكتابنا وأكثر خدم العسكر منهم فلا غنى لنا عنهم، والأحد لنا، فإذا كان يوم الإثنين كان ما نريده من الزحف"، وقصد بذلك مباغت المسلمين والغدر بهم، ولكن الله لم يتم له ما أراد.

فلما كان يوم الجمعة في العشر الأول من رمضان سنة (479هـ) تأهب المسلمون لصلاة الجمعة، وخرج ابن تاشفين هو وأصحابه في ثياب الزينة للصلاة، أما المعتمد فقد أخذ بالحزم خشية غدر الرجل، فركب هو وأصحابه مسلحين وقال لأمير المسلمين ابن تاشفين : "صل في أصحابك، وأنا من ورائكم وما أظن هذا الخنزير إلا قد أضمر الفتك بالمسلمين"، فأخذوا في الصلاة فلما عقدوا الركعة الأولى ثارت في وجوههم الخيل من جهة النصارى، وحمل ألفونسو لعنة الله في أصحابه، يظن أنه انتهز الفرصة، وإذا بالمعتمد وأصحابه من وراء الناس يصدون هجوم النصارى، وأخذ المرابطون سلاحهم وركبوا خيولهم، واختلط الفريقان، وأظهر المعتمد وأصحابه من الصبر والثبات وحسن البلاء الشيء العظيم، فقاتل بنفسه في مقدمة الصفوف، وأثخن بالجراح، وهلك تحته ثلاثة أفراس كلما هلك جواد قدموا له غيره، وقاتل المسلمون قتال من يطلب الشهادة ويتمنى الموت، حتى هزم الله العدو، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم في كل اتجاه، ونجا  ألفونسو في نفر من أصحابه عند حلول الظلام، بعد أن أصابته طعنة في فخذه. فهزمه الله شر هزيمة وأعز جنده المؤمنين في هذه المعركة، وكتبت للأندلس بسببها حياة جديدة امتدت أربعة قرون أخرى ، بعد أن كانت على موعد مع الفناء والاستئصال.

مواد ذات صلة