- اسم الكاتب:د. محمد سليم العوا
- التصنيف:المقالات
من الشعر الذي كان يعلم لجيلنا ونحن صغار، يردده المدرسون والآباء وسائر المربين، قول الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به ...إلا الحماقة أعيت من يداويها!!
والاستطباب هو طلب الطب، أي طلب العلاج. وهو أمر يقتضي أن يدرك المريض مرضه، أو يدركه من حوله فيسعون به إلي طبيب يطلبون البرء من المرض عنده.
لم تسيطر علي فكرة سوي هذه الفكرة بعد ما علمت بالتصريحات التي ضمنها السيد بنديكت (بابا روما) عن الإسلام، وعن الرسول صلي الله عليه وسلم، في محاضرة ألقاها في إحدي الجامعات الألمانية بحضور الحشد المعهود، في اللقاءات العلنية لصاحب هذا المنصب، من الأكاديميين ورجال الكنائس المختلفة الإيمان والمثقفين والدبلوماسيين وسائر الناس.
ولم أعتن عندما طلبت مني إحدي الفضائيات العربية مداخلة هاتفية حول الموضوع بتفنيد ما ادعاه السيد بنديكت أو الرد عليه أو بيان خطئه أو تعصبه ضد الإسلام، أو جهله به.. إلخ؛ لأن هذا كله كان عندي خارج الموضوع.
الذي أهمني هو الدافع إلي الكلام عن الإسلام، وهو الدلالة التي تستفاد منه، وهو محاولات الدفاع عن قائله التي حاول القيام بها بعض القساوسة الكاثوليك علي شاشات الفضائيات، وحاول القيام بها مصدر جهل اسمه وهويته، من الفاتيكان.
(2) البابا بنديكت السادس عشر رجل لاهوت قديم. وهو معروف من قبل اختياره للبابوية بأنه ذو موقف أقل ما يقال فيه إنه متشدد من الديانات غير المسيحية، ومن المذاهب غير الأرثوذكسية. والتشدد بين المذاهب المسيحية أمر له جذوره التاريخية وأسبابه العقدية، داخل الديانة نفسها، حتي قيل في مصر إن سبب عدم استقبال رأس الكنيسة الأرثوذكسية القبطية للبابا الكاثوليكي السابق، يوحنا بولس الثاني، في مقر الكاتدرائية بالعباسية: 'إنه يمثل إيمانا مختلفا لا يجوز السماح لصاحبه بدخول الكاتدرائية!'.
وهذا كله لا يهمنا نحن معشر المسلمين، ولا شأن لنا به. نعم قد يعني به المشتغلون بمقارنة الأديان، لكنه لا يشغل سائر المثقفين المسلمين ولا الدعاة ولا الفقهاء ولا الوعاظ ولا المرشدين. ولذلك لا تجد أحدا، غير علماء مقارنة الأديان، يتناول شيئا من ذلك أو يتحدث به في المجامع المفتوحة أو وسائل الإعلام أو علي المنابر العامة. ونحن نؤمن أن الله تبارك وتعالي 'يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون' وندع ذلك الحكم له.
لكن تشدد البابا بنديكت السادس عشر لم يمكنه من تقليد المسلمين الذين يمسكون عن الكلام عن الكنيسة وتعاليمها وأثر هذه التعاليم في السلوك الأوروبي والأمريكي المسيحي منذ اعتنقت أوروبا المسيحية ونقلتها إلي أمريكا حتي اليوم.
وقاده هذا التشدد إلي أن يتكلم كلاما تصف العرب قائله بأنه "يهرف بما لايعرف"!! وقاده إلي أن يصبح كما كانت تقول العجائز في بلادنا لمن يتطفل علي ما لا شأن له به "من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه"
وهما حالان كان جديرا بالذي يجلس علي رأس الكنيسة الكاثوليكية أن يتجنب الوقوع في أي منهما.
إننا نحن معشر المسلمين كففنا ألسنتنا، ولا نزال فاعلين، عن المخازي والفضائح التي تمتلئ بها وسائل الإعلام الغربية عامة والأمريكية خاصة في الشأن الكاثوليكي. وليس ذلك إلا لأننا نؤثر أن يكون الاحترام المتبادل هو عماد العيش المشترك بين أتباع الأديان المختلفة في العالم كله. ونعلم أن الحماقة في الكلام عن الآخرين لا تجر إلا إلي حماقة منهم في الكلام عنا: لا يمنعهم من ذلك أن يكون ما نقوله نحن حقا ثابتا موثقا وأن يكون ما يقولونه أكاذيب ومفتريات وأغاليط مخترعة لا أصل لها.
ونحن في ذلك نستجيب لتعاليم ديننا، فالقرآن يقول لنا: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}. ولم يكونوا يدعون من دون الله إلا أوثانا، ولم يكونوا يكسبون إلا إثما، ومع ذلك نهانا القرآن عن سب تلك الأوثان والتنديد بتلك الآثام.
ومن حقنا، وهذه تعاليم ديننا، أن نتوقع ألا يتحامق الناس علينا، وأن يعاملونا بمثل ما نعاملهم به، وأن يمسكوا عن رمينا بالباطل ونحن ممسكون عن انتقادهم بالحق. لكن الحماقة أعيت من يداويها!
ما شأن هذا البابا بالإسلام؟ وما علاقته بالنبي صلي الله عليه وسلم؟ ومن الذي خوله أن يتحدث عنهما بمثل ما تحدث به في ألمانيا؟
إن الذين أوتوا الكتاب يعرفون محمدا صلي الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم. بذلك نطق القرآن الكريم. فإن كان هذا البابا منهم فقد عرفه. وما قاله إذن كذب صراح لا يليق بذي عقل فضلا عن صاحب دين، ودعك من كونه صاحب أكبر منصب ديني في ملته.
وإن كان هذا البابا من أهل التحريف والتبديل وسوء الصنيع فإنه لم يعرف محمدا صلي الله عليه وسلم، بل ران علي قلبه ما كسب من فعله، فما الذي يحمله علي الكلام الأبله الذي قاله في ألمانيا؟
إنني لا أجد جوابا عن هذه الأسئلة كلها إلا: أن الحماقة أعيت من يداويها. هذا إن كان هناك في العالم الكاثوليكي من يريد أن يداويها أصلا.
(3) والدلالات التي تستفاد من كلام البابا الكاثوليكي كثيرة لكن أهمها وربما قلت أخطرها أننا بهذه التصريحات نبدأ عهدا جديدا من سوء العلاقة بين الكاثوليك والمسلمين. عهدا يهدم عملا قارب بلوغ خمسين سنة من عمره، هو الحوار الإسلامي الكاثوليكي.
لقد كان هذا الحوار يتم في مقر الفاتيكان، ويتم في عواصم ومدن عربية وأوربية كثيرة، ويشارك فيه ممثلون حقيقيون لمليار وثلث المليار من المسلمين وممثلون حقيقيون للفاتيكان. وكان الاختلاف أكثر من الاتفاق. لكن مجرد اللقاء وتبادل الآراء كان له آثار إيجابية عديدة علي العلاقات الكاثوليكية والإسلامية. وليس الكاثوليك أقل احتياجا إلي هذه الآثار وما يتبعها في المجتمعات الإسلامية من حاجة المسلمين إليها في المجتمعات الكاثوليكية، بل الصحيح أن الكاثوليك أحوج إلي تحسين العلاقة مع المسلمين، وبنائها علي فهم صحيح لمواقف كنيستهم من المسلمين.
لقد تناسي البابا الكاثوليكي هذا كله إن أردنا أن نحسن الظن به ولسنا مضطرين إلي ذلك وتعمد أن يهدمه عن سابق تدبير وقديم تصميم لأنه لم يكن محبا للذي كان يرعاه سلفه من الحوار بين أهل الإسلام وبين الكاثوليك.
والخاسر في ذلك هو الكنيسة الكاثوليكية، وهو الكاثوليك في العالم كله لا في أوربا وأمريكا وحدهما، وهما الإنسانية التي تفيد من الوئام والسلام أضعاف ما تفيد من سوء الفهم ومن سوء التعبير ومن إحياء الضغائن ومن شتم الأنبياء الذي برع فيه أسلاف البابا من اليهود الكذابين.
ولم يكن ذلك البابا محتاجا إلي شيء من ذلك، اللهم إلا أن يكون صحيحا ما قاله الدكتور طه جابر العلواني علي شاشة الجزيرة من أنه يرسل رسالة إلي الإدارة الأمريكية لينال بها حظوة هناك يخفف بها الضغط علي كنيسته ورموزها الذين اتهموا خلال العقد الماضي بأبشع التهم الأخلاقية والمالية.
وإذا دخلت العلاقات الكاثوليكية الإسلامية بسبب تصريحات البابا الكاثوليكي في نفق مظلم من سوء الفهم وسوء التصرف وسوء الظن، فلا يلومن أحد من الكاثوليك إلا نفسه فإن 'الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا علي يديه، أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده'.
(4) الذين دافعوا عن كلام البابا منذ نشرته وسائل الإعلام كان أفضل لهم ألا يفعلوا. كان أفضل لهم أن يحتفظوا بمصداقيتهم لدي الناس ويتركوا البابا يدافع عن نفسه أو يعلن خطأه، وتراجعه عما قال أو علي الأقل تفسيره له.
كان أسوأ هؤلاء حظا المصدر الذي لم يذكر له اسم، ولا عرفت له صفة، الذي نسب كلامه إلي الفاتيكان، وهو أن 'البابا لم يهاجم الإسلام لكن جزءا من محاضرته أسيء فهمه'. وهذا الكلام لا يستحق الرد عليه أو الوقوف عنده، وهو استخفاف قبيح بعقول العالم كله الذي سمع التصريحات بجميع لغاته عبر وسائل الإعلام المختلفة، وهي هجوم صريح علي العقيدة والشريعة معا وسوء أدب بالغ مع النبي صلي الله عليه وسلم. ولا يعفي البابا من آثار ذلك وتبعاته أنه نقل ما قاله من كتاب لإمبراطور بيزنطي قديم(!!)
هذا دفاع قاله بعض القساوسة الكاثوليك وهو لا يقل تهافتا عن كلام المصدر الفاتيكاني لأن البابا هو الذي اختار ما ينقله، وهو الذي قرر قوله علانية، وهو الذي أخرج هذا الكتاب من قبره في مكتبة الفاتيكان لينقل منه أسوأ ما فيه.
بعض المدافعين عن البابا قالوا: إن الاقتباس الذي نقله من ذلك الكتاب 'وظف خطأ'. ولم أفهم هل وظفه خطأ المسلمون الذين غضبوا لدينهم ونبيهم؟ أم وظفه خطأ الذي نقله وأذاعه وفاخر بالمحاضرة به علي الناس؟
وحاول بعضهم أن يزيد استغفالنا فقال: إن البابا كان يتكلم في سياق فلسفي لا ديني، وإن الذي كان يريده هو رد الفلسفة الكنسية إلي أصولها المسيحية(!) وإن الأسئلة التي أوردها البابا مطروحة علي الدين(!)
والحق أنني لم أستطع استيعاب هذا الدفاع كله. ولم أفهم وجه الصلة بين الكلام عن الإسلام ونبيه صلي الله عليه وسلم وبين الفلسفة الكنسية المسيحية. إن هذا الدفاع عن البابا أشبه برميه بعدم القدرة علي البيان وعدم الدقة في التعبير منه بالدفاع عن كلام قاله يستحيل أن يدافع عاقل فضلا عن عالم عنه.
وبعض عقلاء المدافعين عن البابا قال: 'يجب أن ننتظر النص الذي سيصدره الفاتيكان للمحاضرة لنعرف حقيقة ما قاله البابا، وعندئذ يمكننا الكلام'.
وهذا كلام قد يكون محترما، (وإن كان مبطنا باتهامنا بعدم الفهم)، ومع ذلك فإنه يؤجل المسألة يوما أو يومين ثم سنعود إلي ما نحن فيه الآن.
وبعضهم قال: 'إن الفاتيكان عادة يصدر شرحا لكلام البابا فانتظروا هذا الشرح'! وأنا لا ألوم هؤلاء المنتظرين. لكني لا أستطيع قبول أي وجه من وجوه الدفاع عن السخافة والحماقة اللتين تحدث بهما البابا عن الإسلام ونبيه صلي الله عليه وآله وسلم.
(5) ما قاله البابا لا يقل سفاهة وسوء أدب عن الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت في الدانمارك وكان من أمرها ما كان.
وليس للفاتيكان بضائع نقاطعها ولا تجارة نسعى بتجاهلها إلي كسادها. لكن لدولنا كلها سفراء في الفاتيكان عليهم أن يحتجوا علي ما قيل، وعلي دولهم أن تحملهم رسائل شديدة اللهجة تعبر عن استياء المسلمين وغضبهم، وعن قلقهم مما قد تحدثه هذه التصريحات من عواقب وخيمة في العلاقات الإسلامية الكاثوليكية.
وفي الغرب جاليات من ملايين المسلمين مدعوة كلها إلي التظاهر أمام كبري الكاتدرائيات الكاثوليكية بطريقة سلمية عاقلة لكن معبرة عن مشاعر المسلمين نحو ما قاله البابا عن دينهم ونبيهم.
وهناك مشاريع لاستئناف الحوار الإسلامي الكاثوليكي، كنا نبحث بعضها يوم السبت الماضي مع بعض الأصدقاء، وأنا الآن أدعو إلي إلغاء هذه المشاريع جميعا، بما فيها القمة الإسلامية المسيحية الثالثة التي كان يجري الإعداد لها بين الفاتيكان وجمعية سانت إيجيديو من جهة، وبين الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين من جهة أخري.
إن القرآن صريح في النهي عن القعود مع الذين يسخرون من آيات الله، ويدخل في ذلك دينه كله وشأن نبيه صلي الله عليه وسلم: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكري مع القوم الظالمين} (الأنعام:68)، {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتي يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذا مثلهم، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا} (النساء:140).