الأبرص والأقرع والأعمى

5 2704

اقتضت حكمة الله جل وعلا أن تكون حياة الإنسان في هذه الدار مزيجا من السعادة والشقاء ، والفرح والترح ، والغنى والفقر والصحة والسقم ، وهذه هي طبيعة الحياة الدنيا سريعة التقلب ، كثيرة التحول كما قال الأول :

طبعت على كدر وأنت تريدها

                 صفوا من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها

                متطلب في الماء جذوة نار

وهو جزء من الابتلاء والامتحان الذي من أجله خلق الإنسان : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } (الانسان 2) .

وربنا جل وعلا سبحانه يبتلي عباده بالضراء كما يبتليهم بالسراء ، وله على العباد عبودية في الحالتين ، فيما يحبون وفيما يكرهون .

فأما المؤمن فلا يجزع عند المصيبة ، ولا ييأس عند الضائقة ، ولا يبطر عند النعمة بل يعترف لله بالفضل  والإنعام ، ويعمل جاهدا على شكرها وأداء حقها .

وأما الفاجر والكافر فيفرق عند البلاء ، ويضيق من الضراء ، فإذا أعطاه الله ما تمناه ، وأسبغ عليه نعمه كفرها وجحدها ، ولم  يعترف لله بها ، فضلا عن أن يعرف حقها ، ويؤدي شكرها .

وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم- عن هذين الصنفين من الناس ، الكافرين بالنعمة ، والشاكرين لها ، في القصة التي أخرجها البخاري و مسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكا ، فأتى الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه قذره ، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل ، قال : فأعطي ناقة عشراء ،  فقال : بارك الله لك فيها ، قال : فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال شعر حسن ، ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه ، وأعطي شعرا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر ، فأعطي بقرة حاملا ، فقال : بارك الله لك فيها ،قال : فأتى الأعمى ، فقال : أي شيء أحب إليك ، قال : أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال أحب إليك ، قال : الغنم ، فأعطي شاة والدا ، فأنتج هذان وولد هذا ، قال : فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم ، قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيرا أتبلغ عليه في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة : فقال له : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يقذرك الناس ؟! فقيرا فأعطاك الله ؟! فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأقرع في صورته ، فقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد على هذا ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأعمى في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري ، فخذ ما شئت ودع ما شئت ، فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله ، فقال : أمسك مالك ، فإنما ابتليتم ، فقد رضي عنك ، وسخط على صاحبيك ).

إنها قصة ثلاثة نفر من بني إسرائيل ، أصيب كل واحد منهم ببلاء في جسده ،فأراد الله عز وجل أن يختبرهم ، ليظهر الشاكر من الكافر ، فأرسل لهم ملكـا ، فجاء إلى الأبرص فسأله عن ما يتمناه ، فتمنى أن يزول عنه برصه ، وأن يعطى لونا حسنا وجلدا حسنا ، فمسحه فزال عنه البرص ، وسأله عن أحب المال إليه ، فاختار الإبل ، فأعطي ناقة حاملا، ودعا له الملك بالبركة ، ثم جاء إلى الأقرع ، فتمنى أن يزول عنه قرعه ، فمسحه فزال عنه، وأعطي شعرا حسنا ، وسأله عن أحب المال إليه فاختار البقر ، فأعطي بقرة حاملا ، ودعا الملك له بالبركة ، ثم جاء الأعمى ، فسأله كما سأل صاحبيه ، فتمنى أن يرد عليه بصره ، فأعطي ما تمنى ، وكان أحب الأموال إليه الغنم ، فأعطي شاة حاملا .

ثم مضت الأعوام ، وبارك الله لكل واحد منهم في ماله ، فإذا به يملك واديـا من الصنف الذي أخذه ، فالأول  يملك واديـا من الإبل ، والثاني يملك واديـا من البقر ، والثالث يملك واديـا من الغنم ، وهنا جاء موعد الامتحان الذي يفشل فيه الكثير وهو امتحان السراء والنعمة ، فعاد إليهم الملك ، وجاء كل واحد منهم في صورته التي كان عليها ليذكر نعمة الله عليه ، فجاء الأول على هيئة مسافر فقير أبرص ، انقطعت به السبل وأسباب الرزق ، وسأله بالذي أعطاه الجلد الحسن واللون الحسن ، والمال الوفير ، أن يعطيه بعيرا يواصل به سيره في سفره ، فأنكر الرجل النعمة ، وبخل بالمال ، واعتذر بأن الحقوق كثيرة ، فذكره الملك بما كان عليه قبل أن يصير إلى هذه الحال ، فجحد وأنكر ، وادعى أنه من بيت ثراء وغنى ،  وأنه ورث هذا المال كابرا عن كابر ، فدعا عليه الملك إن كان كاذبـا أن يصير إلى الحال التي كان عليها ، ثم جاء الأقرع في صورته ، وقال له مثل ما قال للأول ، وكانت حاله كصاحبه في الجحود والإنكار ، أما الأعمى فقد كان من أهل الإيمان والتقوى ، ونجح في الامتحان ، وأقر بنعمة الله عليه ، من  الإبصار بعد العمى ، و الغنى بعد الفقر ، ولم يعط السائل ما سأله فقط ، بل ترك له الخيار أن يأخذ ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، وأخبره بأنه لن يشق عليه برد شيء يأخذه أو يطلبه من المال ، وهنا أخبره الملك بحقيقة الأمر وتحقق المقصود  وهو ابتلاء للثلاثة ، وأن الله رضي عنه وسخط على صاحبيه .

إن هذه القصة تبين بجلاء أن الابتلاء سنة جارية وقدر نافذ ، يبتلي الله عباده بالسراء والضراء والخير والشر ، فتنة واختبارا كما قال سبحانه : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (الأنبياء 35 ) ، ليتميز المؤمن من غيره ، والصادق من الكاذب :{ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } (العنكبوت 1-2 ) فبالفتنة تتميز معادن الناس ، فينقسمون إلى مؤمنين صابرين ، وإلى مدعين أو منافقين ، وعلى قدر دين العبد وإيمانه يكون البلاء ، وفي المسند عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟ قال : ( الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل من الناس ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة ) .

كما تشير القصة إلى معنى عظيم ، وهو أن الابتلاء بالسراء والرخاء قد يكون أصعب من الابتلاء بالشدة والضراء ، وأن اليقظة للنفس في الابتلاء بالخير ، أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر .

وذلك لأن الكثيرين قد يستطيعون تحمل الشدة والصبر عليها، ولكنهم  لا يستطيعون الصبر أمام هواتف المادة ومغرياتها .

كثير هم أولئك الذين يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف ، ولكن قليل هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة .كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل ، ولكن قليل هم الذين يصبرون على الغنى والثراء ، وما يغريان به من متاع ، وما يثيرانه من شهوات وأطماع ، كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء ، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الرغائب والمناصب .

وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول : "ابتلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالضراء فصبرنا ، ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر " .

ولعل السر في ذلك أن الشدة تستنفر قوى الإنسان وطاقاته ، وتثير فيه الشعور بالتحدي والمواجهة ، وتشعره بالفقر إلى الله تعالى ، وضرورة التضرع واللجوء إليه فيهبه الله الصبر ، أما السراء ، فإن الأعصاب تسترخي معها ، وتفقد القدرة على اليقظة والمقاومة ، فهي  توافق هوى النفس ، وتخاطب الغرائز الفطرية فيها ، من حب الشهوات والإخلاد إلى الأرض ، فيسترسل الإنسان معها شيئا فشيئا ، دون أن يشعر أو يدرك أنه واقع في فتنة ، ومن أجل ذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح ، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء - كما فعل الأبرص والأقرع- ، وذلك شأن البشر ، إلا من عصم الله ، فكانوا ممن قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) رواه مسلم ، فاليقظة للنفس في حال السراء أولى من اليقظة لها في حال الضراء ، والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان .

كما تؤكد القصة على أن خير ما تحفظ به النعم شكر الله جل وعلا الذي وهبها وتفضل بها ، وشكره مبني على ثلاثة أركان لا يتحقق بدونها : أولها الاعتراف بها باطنا ، وثانيها التحدث بها ظاهرا ، وثالثها تصريفها في مراضيه ومحابه ، فبهذه الأمور الثلاثة تحفظ النعم من الزوال ، وتصان من الضياع .

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة