الأطفال والحروب آلام لا يمحوها الزمن !!

3 1721

دوي المدافع يكاد يصمم آذانهم، وأزيز الطائرات يروع قلوبهم، ومشاهد القتل والدمار شريط يتجدد أمام أعينهم كل يوم، هذا ما يعيشه أطفالنا في فلسطين والعراق – ولبنان أيضا – وغيرها من بلاد المسلمين، أما إخوانهم من الأطفال فيشاهدون مشدوهين على شاشات التلفاز نقلا حيا لفصول الحرب والدمار.

وما بين من يعيش الحرب ومن يشاهدها من أطفالنا تضيع طفولتهم وتزداد معاناتهم، فماذا فعلت الحروب في أطفالنا ؟ وماذا نفعل لهم ؟

تقول إحصاءات اليونيسيف إن حروب العالم قتلت مليون طفل ويتمت مثلهم، وأصابت 4.5 مليون بالإعاقة، وشردت 12 مليون وعرضت 10 ملايين للاكتئاب والصدمات النفسية، الجزء الأكبر من هذه الأرقام يقع في بلدان العرب والمسلمين.

يركز علماء النفس والتربويون على الصدمة كأكثر الآثار السلبية للحروب انتشارا بين الأطفال، فغالبا ما يصاحب الصدمة خوف مزمن (فوبيا) من الأحداث والأشخاص والأشياء التي ترافق وجودها مع الحرب مثل صفارات الإنذار.. وصوت الطائرات .. الجنود.. إلخ؛ يقابلها الطفل بالبكاء أو العنف أو الغضب أو الاكتئاب الشديد.

أما إذا كانت الصدمة ناجمة عن مشاهدة الطفل لحالات وفاة مروعة أو جثث مشوهة لأقارب له فإنها يمكن أن تؤثر على قدراته العقلية. وتتسبب الصدمة في معاناة الأطفال من مشكلات عصبية ونفسية ممتدة مثل الحركات اللاإرادية، وقلة الشهية للطعام، والابتعاد عن الناس، والميل للتشاؤم واليأس، وسرعة ضربات القلب في بعض المواقف.

وتفجر الحروب لدى الأطفال – لاسيما الصغار منهم – أزمة هوية حادة، فالطفل لا يعرف لمن ينتمي ولماذا يتعرض لهذه الآلام، أما الأطفال الأكبر – الفتيان – فيجدون أنفسهم وقد أصبحوا في موقف الجندية عليهم الدفاع عن أنفسهم وذويهم ولو عرضهم ذلك للخطر، وحتى إذا لم يفعل الأطفال ذلك فإنهم يجدون أنفسهم في حالة من التشرد والفقر تفوق قدرتهم على الاستيعاب خصوصا على التعبير الجيد عن المشاعر والرغبات مما يغذي مشاعر دفينة تظهر في مراحل متقدمة من أعمارهم في صور عصبية وانطواء وتخلف دراسي وغيرها من الأعراض.

إن أخطر آثار الحروب على الأطفال ليس ما يظهر منهم وقت الحرب، بل ما يظهر لاحقا في جيل كامل ممن نجوا من الحرب وقد حملوا معهم مشكلات نفسية لا حصر لها تتوقف خطورتها على قدرة الأهل على مساعدة أطفالهم في تجاوز مشاهد الحرب.

 في العراق مثلا يشير أحد مسئولي اليونيسيف إلى أن أكثر من نصف مليون طفل عراقي سيكونون بحاجة إلى علاج نفسي من الصدمة النفسية التي تعرضوا لها خلال الحرب.

أما في لبنان فقد أشارت جماعة "إنترناشيونال ميديكال كوريس" الأمريكية إلى أن الأطفال اللبنانيين سيواجهون مشكلات صحية ونفسية خطيرة في الأشهر القادمة بسبب الحرب التي كان ثلث قتلاها وجرحاها من الأطفال، ورصد أطباء الجماعة تغيرات سلوكية سلبية على أطفال لبنان في مناطق الحرب، أما منظمة اليونيسيف فقد أكدت أن الأحداث المروعة التي شهدها لبنان تركت آثارا بالغة في نفوس الأطفال، وأن آثارا خفية عن الأنظار بدأت تظهر عليهم، وتوقعت المنظمة عودة أمراض الإسهال والرئة وشلل الأطفال والحصبة بين أطفال لبنان الذين شردتهم الحرب.

معاناة ممتدة:

معاناة الأطفال من الحروب لا تتوقف بتوقف المدافع، بل تصاحبهم إلى مراحل متقدمة من أعمارهم.

مذبحة قانا التي مر عليها حوالي عشر سنوات لا يزال الأطفال الذين عايشوها يعانون من اضطرابات نفسية، ففي بحث أجراه صندوق الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" بالتعاون مع وزارة التعليم اللبنانية على 500 طفل لبناني ممن عايشوا أو شاهدوا تلك المذبحة تبين أن 30% من هؤلاء الأطفال لا يزالون يعانون من اضطرابات النوم، و14% يعانون من الاكتئاب، و40% منهم فكروا في الانتحار.

أما ملجأ العامرية الذي قصفته القوات الأمريكية خلال حرب الخليج الثانية قبل 15 عاما فما زالت الآثار النفسية باقية على الأطفال العراقيين الذين نجوا من تلك المذبحة أو شاهدوها. أحمد أصبح شابا عراقيا الآن لكنه مازال يعاني من الصور المرعبة لقصف ملجأ العامرية حيث فقد والدته وخمسة من أشقائه.

يقول الأطباء النفسانيون: عن أطفال لبنان والعراق وفلسطين ربما لن يشفوا من الاضطرابات النفسية التي تسببها لهم الصور المختزنة في أذهانهم عن مشاهد الموت والدمار التي عايشوها، فكما يقول الدكتور فتحي الشرقاوي أستاذ علم النفس فإن المشاهد التي يراها الطفل بين سن الثالثة والسابعة تشكل شخصيته وتؤثر في سلوكه، ولذلك فإن مشاهد الجثث المحترقة والمنازل المهدمة يختزنها الطفل في عقله الباطن فتفقده طفولته وعفويته..

 فالآثار السلبية لتلك المشاهد لا تنتهي بنهاية مرحلة الطفولة، بل تشكل منظارا يرى الطفل العالم من خلاله، ولأن الأطفال لا يفهمون مبررات الحرب كما يفعل الكبار، فإنه لا سبيل أمامهم للتعبير عن تأثرهم بما يعانون ويعايشون ويرون من تلك الحرب إلا الانطواء والتوجس أو التبلد أو العدوانية.

جيل أكثر قوة :

التأثير السلبي لأجواء الحروب على الأطفال يكاد يكون أمرا مسلما به، لكن على الجانب الآخر هناك من يرى في تلك الأجواء شيئا من الإيجابية، إذ يشير بعض التربويين إلى أن الجيل الذي يعيش تلك الأجواء سيكون أكثر قوة وقدرة على التحمل شرط أن يكون وراء هؤلاء الصغار أسر واعية تشرح لهم ما وراء مشاهد الحرب التي يعايشونها أو يشاهدونها، ولذلك من المهم ألا يجلس الطفل بمفرده أمام نشرات الأخبار في التلفاز، بل لابد من وجود بالغ بجواره يشرح له دلالة الأحداث وما وراءها.

الجيل الفلسطيني الذي تفتح مع الانتفاضة الأولى (1987) أصبحوا الآن شبابا، يقودون الانتفاضة الثانية ولم يعد يخيفهم الموت، بل يسعون إليه، ففي دراسة ميدانية خلال انتفاضة الأقصى – حول تأثير الحرب في الأطفال الفلسطينيين – تبين أن 75% من فتيان وفتيات فلسطين يحلمون بأن يصبحوا شهداء.

إياد – طفل فلسطيني عمره 5 سنوات – يعلم أن القوات الصهيونية قتلت والده وعمه وشقيقه، تقول والدته: "لم أجد مفرا من إخباره بالحقيقة ، أطفالنا يكبرون قبل أوانهم، ماذا نفعل إذا كانوا يرون بأم أعينهم مشاهد القتل والدمار التي يحدثها الصهاينة في كل قرى ومدن فلسطين؟!".

أما الفتى يوسف – 15 سنة – فقد تجاوز المعرفة إلى الفعل، فطوال عمره لم تغب عن عينه مشاهد البيوت المدمرة وجنازات القتلى الذين توقعهم طائرات الاحتلال، فلم يكن غريبا أن ينخرط في عملية استشهادية كتب قبلها وصيته إلى والديه.. سطور الوصية تشير إلى أننا أمام عقل كبير لا طفل، إذ يقول فيها: "سامحيني يا أمي لأنني ذهبت دون أن أودعك ولأنني كنت أعقك أحيانا.. سامحني يا أبي .. أرجوك أن ترضى عني حتى يرضى الله عني، وأن تدعو لي في صلاتك، فالعبد أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد.. أرجوك أن تدفع لسوبرماركت 1.5 شيكل، وأن تعطي المصحف الصغير لـ...".

المعايشة أصعب من الحديث:

قد يسهل الحديث عن الآثار التي تصيب الأطفال من الحروب سواء عايشوا أو شاهدوها، لكن تجارب الآباء والأمهات مع هؤلاء الأطفال هي التحدي الذي يواجه كل أسرة، فربما يكون من السهل أن نقول للآباء والأمهات: لا تدعوا أطفالكم يرون مشاهد القتل والدمار في نشرات الأخبار، لكن ماذا نقول لمن يعيشون التجربة حية ؟ ماذا تقول الأم لطفلها عندما يرتج بيتها من القصف، وينهار البيت المجاور ويموت زملاء وأصدقاء أطفالها الذين يسألون عنهم.. يبدو أن واقعنا المعيش أكثر تعقيدا من كل نظريات التحليل والتنظير.

هدى أم لبنانية عاشت تجربة من هذا النوع، فعندما كان أطفالها يسمعون أصوات الغارات كانت تخبرهم أنها أصوات المفرقعات التي اعتادوا سماعها أثناء وبعد مباريات كرة القدم، لكن هذه الكذبة لم تدم طويلا، فالأطفال أصبحوا يرون هذه الغارات ويسمعونها في آن واحد ولم تفلح محاولات الأم بإبعادهم عن التلفاز في منعهم من معايشة آثار الحرب، في النهاية لم تجد بدا من إخبارهم بحقيقة ما يجري رغم صغر سنهم (4 ، 6، 8 سنوات).

أما هدى فقد كانت أسعد حظا، إذ كانت ممن هجروا مع أطفالهم الأربعة (3 ، 5، 7، 10) إلى سوريا عندما اشتد العدوان الإسرائيلي على لبنان، وهناك منعتهم من متابعة الفضائيات ورتبت معهم برنامجا للقراءة والمساهمة في أعمال المنزل والزيارات، لكن كل ذلك لم يمنع هؤلاء الصغار من إدراك حقيقة ما يجري، فالزوار الذين يأتون إليهم لا يتكلمون إلا عن الحرب والدمار الذي أصاب لنبان، ولم يعد أمامها ما تعول عليه لإخراج أطفالها من مناخ الحرب إلا عودتهم إلى المدارس.

أطفال لبنان أسعد حظا بكثير من أطفال فلسطين والعراق، فلبنان تعرض لهجمات متفرقة، أما في فلسطين والعراق فالموت هو الحكاية الدائمة كل يوم، يجده الأطفال في البيوت والشوارع والمدارس والطرقات، وفي كل مكان، وتذهب محاولات الآباء والأمهات سدى في التخفيف من أثر هذا الواقع على أطفالهم حتى أنهم أصبحوا أطفالا بلا طفولة، وأصبحنا نرى مشاهد الأطفال أمام دبابات الأمريكيين أو الإسرائيليين في شوارع المدن العراقية والفلسطينية ، بل إن ألعاب الأطفال الفلسطينيين أصبحت رشاشات ومدافع.

في مثل هذه الأجواء لا يصبح هم الآباء والأمهات حماية الأطفال من مشاهد العنف والموت، بل حمايتهم من الموت نفسه، وهذا ما تفعله العراقية أم زيد في بغداد حيث تمنع أطفالها من مغادرة المنزل أو اللعب في الشوارع، وتبرر ذلك بقولها: "أضطر إلى حبس أطفالي في المنزل وأحاول أن أوفر لهم الأجواء الملائمة من ألعاب وأراجيح".

 أما الفلسطينية ميسون فلم تنجح أساليب حبس أطفالها في البيت لحمايتهم من الغدر الصهيوني، إذ طال منزلهم صاروخ من إحدى الطائرات توفي على إثره زوجها واثنان من أطفالها. وهكذا تسلل الموت إلى البيوت والأسواق والمتاجر والمساجد، فأين يذهب الصغار؟

ماذا نفعل ؟

يواجه الأهل تحديات جمة في التعامل مع أطفالهم أثناء الحروب ليس في البلدان التي تدور فيها الحرب فحسب بل في البلدان التي تتابعها على شاشات التلفاز، ففي كل الأحوال يحتاج الأطفال إلى معاملة خاصة من ذويهم سواء كانوا ضحايا للحرب أو مجرد متابعين لها. بعض البلدان أدركت خطورة هذه المسألة فعمدت إلى مساعدة الآباء والأمهات من خلال حصص دراسية في المدارس تهيئ الأطفال للتفاعل مع الحرب دون صدمات.

أول ما يجب أن يفعله الآباء والأمهات عند تعرض الطفل لظروف مروعة في الحروب هو أن يحيطوه بالاطمئنان ولا يتركوه دون دعم نفسي وأن يطمئنوه بأن كل شيء سيكون على ما يرام مع تشتيت فكره عن الحدث المروع.

أما الأطفال الأكبر سنا فيمكن مناقشة ما يجري معهم وإقناعهم بأنهم في مكان آمن وأن القصف لن يطالهم مع عدم منعهم من البكاء أو السؤال عما يجري. ويمكن لرب الأسرة في مناطق الحروب أن يجمع أسرته صغارا وكبارا من أجل قراءة القرآن والدعاء مع زرع الإحساس بداخل الطفل بأن القدرة الإلهية قادرة على كل شيء، وأن قوة الله فوق كل قوة، وكيف أنه سبحانه نجى إبراهيم من النار وموسى من الغرق ومحمدا صلى الله عليه وسلم من كيد قريش، وكم من فئة قليلة نصرها الله تعالى على فئة كثيرة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة