محاسبة النفس

3 1518


إن علاج استيلاء النفس الأمارة على قلب المؤمن محاسبتها ومخالفتها ، أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا ، فإن أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية "(رواه الترمذي) .
وقال الحسن : " المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ، إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ، ولكن والله ما من حيلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا ، مالي ولهذا ، والله لا أعود إلى هذا أبدا .

إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن ، وحال بين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئـا حتى يلقى الله ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله " .
قال مالك بن دينار : " رحم الله عبدا قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ؟! ، ألست صاحبة كذا ؟! ثم زمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل ، فكان لها قائدا " .

فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها ، قال الله تعالى : (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا )(آل عمران/30) .
ومحاسبة النفس نوعان :

نوع قبل العمل ، ونوع بعده :
أما النوع الأول : فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه .
قال الحسن - رحمه الله - : " رحم الله عبدا وقف عند همه ، فإن كان لله أمضاه ، وإن كان لغيره تأخر " .
وشرح بعضهم هذا فقال : إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهم به العبد وقف أولا ونظر هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور عليه ، ولا مستطاع ، فإن لم يكن مقدورا عليه لم يقدم عليه وإن كان مقدورا عليه وقف وقفة أخرى ونظر ، هل فعله خير من تركه ؟ أو تركه خير له من فعله ؟ فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه ، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة : هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق ؟

فإن كان الثاني لم يقدم ، وإن افضى به إلى مطلوبه ، لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله ، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى يصير أثقل شيء عليها ، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر هل هو معان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجـا إلى ذلك أم لا ؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه ، كما أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار ، وإن وجده معانـا عليه فليقدم عليه فإنه منصور بإذن الله ،ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال ، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح ، فهذه أربعة مقامات يحتاج العبد إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل .

وأما النوع الثاني : فمحاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع :
أحدها : محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي ، وحق الله في الطاعة ستة أمور :
- الإخلاص في العمل .
- ا لنصيحة لله فيه .
- متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
- شهود مشهد الإحسان .
- شهود منة الله .
- شهود تقصيره فيه بعد ذلك كله .
فيحاسب نفسه هل وفى هذه المقامات حقها ؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟
الثاني : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله .
الثالث : أن يحاسب نفسه على أمر مباح لم فعله ؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحـا ، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به .

وإذا أهمل العبد نفسه وترك محاسبتها واسترسل مع رغباته فإن هذا يؤول به إلى الهلاك ، وهذه حال أهل الغرور يغمض عينيه عن العواقب ويتكل على العفو ، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة ، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها وعسر عليه فطامها ، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد .

وجماع ذلك : أن يحاسب نفسه أولا على الفرائض ، فإن تذكر نقصـا تداركه إما بقضاء أو إصلاح ، ثم يحاسبها على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئـا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ، ثم يحاسب نفسه على الغفلة ، فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى ، ثم يحاسبها بما تكلم به أو مشته رجلاه أو بطشت يداه أو سمعته أذناه ماذا أرادت بهذا؟ ولم فعلته وعلى أي وجه فعلته .. قال الله تعالى : (فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون) (الحجر/92 ، 93) .
وقال تعالى : (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين)(الأعراف/6 ، 7) .
وقال تعالى : (ليسأل الصادقين عن صدقهم )(الأحزاب/8) .
فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين .
وقال تعالى : (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)(التكاثر/8) .
قال محمد بن جرير - رحمه الله - : يقول الله تعالى ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا : ماذا عملتم فيه ؟ ومن أين وصلتم إليه ؟ وفيم أصبتموه ؟ وماذا عملتم به ؟
وقال قتادة : إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه .
والنعيم المسؤول عنه نوعان : نوع أخذ من حله وصرف في حقه ، فيسأل عن شكره .
ونوع : أخذ بغير حله وصرف في غير حقه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه .

فإذا كان العبد مسؤولا ومحاسبـا على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى : (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(الإسراء/36) فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب .
وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد)(الحشر/18) .
يقول الله تعالى : لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال ، أمن الصالحات التي تنجيه ، أم من السيئات التي توبقه ؟
قال قتادة : مازال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد .
والمقصود : إن صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معها .
المصدر: البحر الرائق للشيخ أحمد فريد

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة