هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الغضب

1 1237

على الرغم من كون النبي – صلى الله عليه وسلم –  نبيا من الأنبياء يتلقى الوحي من السماء، غير أن المشاعر الإنسانية المختلفة تنتابه كغيره من البشر، فتمر به حالات من الفرح والسرور، والحزن والضيق، والرضا والسكينة، والغضب والغيظ .    

وتبرز قيمة العنصر الأخلاقي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم – في وضع هذه الانفعالات المتباينة في إطارها الشرعي، حيث هذبها وصانها عن الإفراط والمغالاة، والتفريط والمجافاة، بل أضاف لها بعدا جديدا حينما ربطها بقضية الثواب والاحتساب، وكان شعاره – عليه الصلاة والسلام – في ذلك : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) رواه البيهقي .

فالغضب وإن كانت حقيقته جمرة تشعل النيران في القلب فتدفع صاحبها إلى قول ما يندم عليه، أو فعل ما لا تحمد عقباه، أو كان دافعه الانتصار للنفس أو العصبية والحمية للآخرين، فهو عند النبي – صلى الله عليه وسلم – قول بالحق، وغيرة على محارم الله، لا اعتداء فيه ولا غلو، ودافعه دوما إنكار لمنكر أو عتاب على ترك الأفضل .

ويؤكد المعنى السابق ما ذكرته عائشة رضي الله عنها من حال النبي – صلى الله عليه وسلم -، حين قالت : ( ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل ) رواه مسلم .

ومواقف النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الغضب تكشف لنا عن دقة وصف عائشة رضي الله عنها ، فمن ذلك موقفه – صلى الله عليه وسلم –  مع أسامة بن زيد رضي الله عنه حين بعثه في سرية، فقام بقتل رجل بعد أن نطق بالشهادة وكان يظن أنه إنما قالها خوفا من القتل، فبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فغضب غضبا شديدا، وقال له : ( أقال لا إله إلا الله وقتلته ؟ أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ) حتى قال أسامة رضي الله عنه : "  فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ " رواه مسلم .

وفي موقف آخر رأى النبي - صلى الله عليه وسلم – رجلا يلبس خاتما من الذهب، فغضب ونزع الخاتم من يد الرجل وطرحه في الأرض وقال : ( يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده ) رواه مسلم .

وعندما حاول أسامة بن زيد رضي الله عنهما الشفاعة في المرأة المخزومية التي سرقت، غضب حتى عرف ذلك في وجهه، وقال لأسامة : ( أتشفع في حد من حدود الله ) ثم قام فخطب في الناس قائلا : ( إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) متفق عليه .

وفي أحد أسواق المدينة وقع خلاف بين صحابي وأحد تجار اليهود، فقال اليهودي : "  والذي اصطفى موسى على البشر "، فلطمه رجل من الأنصار وقال له : " تقول والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ؟ "، فذهب اليهودي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يشتكي ما أصابه، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال : ( لا تفضلوا بين أنبياء الله )  متفق عليه .

ونقلت لنا أمهات المؤمنين مواقف من غضبه لله، وغيرته على محارمه، ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها : " دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت قرام  - وهو الستر الرقيق - فيه صور، فتلون وجهه عليه الصلاة والسلام، ثم تناول الستر فهتكه وقال : ( من أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يصورون هذه الصور ) " رواه البخاري .

وخرج - صلى الله عليه وسلم – ذات يوم على بعض أصحابه وهم يتنازعون في القدر، فغضب حتى احمر وجهه كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال : ( أبهذا أمرتم ؟ أم بهذا أرسلت إليكم ؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ) " .

وغضب عليه الصلاة والسلام من تكلف الناس في السؤال عن الأمور الدقيقة فيكون سؤالهم سببا في التشديد عليهم، وكذلك من سؤالهم عما لا يفيد، فقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس ( سلوني عما شئتم ) ، فقال رجل : من أبي ؟، قال ( أبوك حذافة ) ، فقام آخر فقال : من أبي يا رسول الله ؟، فقال : ( أبوك سالم مولى شيبة ) ، فلما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما في وجهه قال : يا رسول الله، إنا نتوب إلى الله عز وجل " .

وشكا إليه رجل من إطالة الإمام في صلاته ومشقته على المصلين، فغضب - صلى الله عليه وسلم – حتى قال أبو مسعود : " ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبا منه يومئذ "، ثم قال : ( يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فمن أم الناس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة ) متفق عليه .

وثمة مواقف أخرى تشير إلى أن غضبه عليه الصلاة والسلام لم يكن مقصورا على ارتكاب المخالفات الشرعية، بل كان يغضب لمجرد تقاعس الناس عن الخير أو تركهم لما هو أولى، ويشهد لذلك ما رواه  الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحثنا على الصدقة، فأبطأ الناس، حتى رؤى في وجهه الغضب " .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجب ويتبسم، فلما أكثر الرجل رد عليه أبو بكر ، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام من مجلسه، فلحقه أبو بكر فقال : " يا رسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت ؟ "، فقال له : ( إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان ) رواه أحمد .

وبذلك يظهر جليا أن غضب النبي – صلى الله عليه وسلم – كان لوجه الله تعالى، لا انتصار فيه للنفس، ولا مدخل فيه للهوى، وهذا هو المعيار الحقيقي للوصول إلى رضا الله عزوجل .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة