الدعاة وأعراف المجتمعات

0 989

للأعراف في كل مجتمع من المجتمعات تأثيرها، وسطوتها على عقول الناس ومواقفهم واختياراتهم، وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أن دعوة الرسل الكرام على ما فيها من حق وإشراق، وما توافر لها من دلائل الصدق والتأييد إلا أن الأمم الجائرة قابلت هذه الهدايات بالتنكر والجحود، وأبت إلا التمسك بأعرافها الموروثة، وتقاليدها المتبعة؛ قال تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)، وقال جل وعلا: (وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا)، وقد حكى الله عن قوم نوح قولهم: (ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)، وعن قوم إبراهيم قولهم: (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون).

ما يزال كثير من الناس إلى عصرنا هذا لا يمنعه من قبول الحق رغم يقينه بأنه حق إلا الخوف من مخالفة قومه، ومما سيلحقه في سبيل هذه المخالفة من عنت؛ فالتحرر من أغلال التقاليد والأعراف الراسخة في المجتمعات ليس بالأمر اليسير؛ ولا يستطيعه إلا من أعد نفسه؛ وهيأها للتضحيات الجسام؛ فقد يبلغ الأمر بمن لا يوافق الناس على ما تواضعوا عليه من خلق ودين أن يخرج من بلده أو يقتل؛ (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)، وقال قوم لوط: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون).

هذه هي سطوة الأعراف على المجتمعات، وقد كان الإسلام مدركا لأثر هذه الأعراف على عقول الناس؛ لذلك ما اعتمد في تغييرها على العنف والشدة، بل أمر بالرفق والحكمة؛ (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، ومن حكم نزول القرآن منجما التدرج في تربية المجتمع، وانتزاع مواريث الجاهلية شيئا فشيئا.. وكان الإسلام منصفا أيضا في نظره لأعراف المجتمعات؛ فلم يأمر بمصادمتها جملة؛ واقتلاع كل ما توارثه الناس، ولكنه وضع القسطاس المستقيم الذي يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ فما وافق الحق قبل، وما خاصمة رد؛ لذلك لخص لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة دعوته؛ فقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)؛ فما من عرف حسن، أو خلق كريم استقر في أمة من الأمم إلا وجاء الدين مرحبا به، وداعما له، وشاهد ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حلف الفضول الذي تداعت له قبائل العرب نصرة للمظلوم: (لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت).

ولا شك أن هذه المرونة في التعامل مع كسب الشعوب كانت من أعظم عوامل تقدم الدين؛ إذ لم تشعر هذه الشعوب بأن الإسلام يكلفها أن تنخلع عن كل عاداتها ومواريثها، كما لم يطالبها بأن تتخلى عن انتمائها لأوطانها، وانتسابها لأصولها، وما رأت الإسلام يوما يحجر عليها أن تتسمى بأسمائها، أو تتزيا بأزيائها..

إن هذه الدائرة في شريعة الإسلام متروكة لسنن الناس وعاداتهم؛ ويكفي أن تأتي الشريعة فيها بقواعد كلية، أو تنهى عن أمور محصورة لو عدها العاد لأحصاها.. كأن يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة).

وها نحن نرى شعوبا دخلت في الإسلام منذ قرون ومع ذلك لا تزال تحافظ على أسمائها، وعلى كثير من عاداتها في طعامها وشرابها ولباسها دون أن يخدش ذلك في انتمائها لدينها. ومن الخطأ البين أن يخلط الدعاة في هذا الباب بين الشريعة والعادة، وبين السنن الملزمة وغير الملزمة!؛

والتعامل مع عادات الناس وطبائع الشعوب من الفقه الذي نحتاج أن نحسنه، وفي ظني أن الدعوة ستكسب خيرا كثيرا إذا وفق الله الدعاة أن يستثمروا الجوانب الحسنة في عادات الشعوب؛ ويجعلوا منها طريقا موصلا إلى الله.. وهذا هو عين ما فعله الإسلام يوم أبقى على عادات العرب وأخلاقهم التي لا تعارض الدين، ونقاها من الشوائب والمكدرات؛ فالكرم الذي عرفوا به، وتمادحوا به في أشعارهم حض عليه الإسلام، ولكن لم يعد الباعث عليه مخافة الذم كما هو الحال عندهم، ولكن كما قال القرآن: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا).. والشجاعة في القتال من مفاخر العرب، وجاء الإسلام؛ ومدح هذه الشجاعة، غير أنه حدد لها إطارا؛ فلا يجوز للرجل أن يقاتل شجاعة أو حمية، وإنما من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله.

ومن حق العادات الحسنة أن تشكر، وأن يقابلها الدعاة بمشاعر التأييد؛ حتى يشتد عودها؛ وتصبح من بعد تقليدا متبعا، وقاعدة ينطلق منها الدعاة إلى الله في تكثير الخير وتكميله؛ إذ البداية من الأمور المتفق عليها والعادات المستقرة عند الناس أولى من الدخول معهم في صراع حول مسائل لم تبلغها عقولهم؛ ولم يسلموا بها، وقد أخبرنا الله في كتابه أن من أسباب رد الحق احتجاب العقل عن إدراكه؛ فقال: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)؛ فلتكن من بداياتنا في الدعوة توظيف الأعراف المأذون بها فضلا عن الأعراف التي هي من صميم ديننا.. أقول هذا وأنا أدرك أن كثيرا من أعرافنا الحسنة في المجتمعات الإسلامية ربما اختلطت بها بدع ومخالفات شوهت صورتها، ونفرت الطيبين عنها، ولكن العاقل من لا يفوت أصل المصلحة تشوفا لكمالها، ولا يبطل العرف الحسن لاختلاطه بمنكر قبيح.

وعلى الدعاة أن يدركوا أيضا أن دورهم لن ينتهي بإصدار الأحكام على أعراف الناس أو نقدها؛ فالنقد مهما كان صوابا فلن يجد آذانا صاغية؛ حتى نقدم للناس البديل الصالح الذي يتشبثون به؛ (قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم)؛ إن لوطا عليه السلام أنكر ما عليه قومه من فاحشة الشذوذ وما وقف عند هذا الحد!، ولكنه ندبهم إلى الزواج (البديل الطاهر)؛ وقال لهم: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)؛ فوظيفة الأنبياء ليست إنكار المنكر فحسب، ولكنها مع ذلك إرشاد ودلالة إلى المعروف وطريق الخير والرشاد؛ (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).

إن تقديم البديل الصالح للواقع المنحرف هو الذي سيمنح مشاريع الإصلاح الدعوي قوتها، ويكسبها القبول والثقة؛ فالناس مجبولون على التعلق بما يرونه ماثلا أمامهم، قائما في حياتهم.. ونظرهم إلى الواقع المعاش أسبق من نظرهم إلى الأفكار؛ لذلك قل أن يتمسكوا بشيء غير معهود، أو يتأثروا بموعظة مجردة عن السلوك.. وهذا هو السر في أن الله تعالى أنزل الكتاب، وأرسل الرسول الذي يتحرك بالكتاب، ويمشي به في الناس، ويجرد من نفسه أسوة حسنة؛ وبهذا يقع التأثير، ويتحقق الصلاح.. وقد قرن نبي الله شعيب بين القدوة الحسنة التي تتبع القول العمل والإصلاح المنشود؛ فقال لقومه: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).

فالخطاب الدعوي المعاصر يجب أن يركز في هذه المرحلة من تاريخ الأمة على البرامج العملية القادرة على مناهضة الواقع الفاسد، وإشاعة العرف الراشد، أما الحديث - الموصول (وكدت أقول: (المعسول)) - عن الحل الإسلامي وبيناته فلا يكفي وحده؛ و(هل ينتفع المرضى - كما قال أحد المشايخ -: بمن يقول لهم الدواء هو الحل؟!).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد الحبر يوسف

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة