قبسات مشرقة من عدل النبي – صلى الله عليه وسلم -

0 934

في ظل الأجواء القاتمة التي سادت الجزيرة العربية ، وانتشار صور العدوان وألوان الظلم التي مورست ضد الضعفاء والمساكين ، جاءت الشريعة الخاتمة لتخرج الناس من جور الأديان إلى عدالة الإسلام ، وأنزل الله خير كتبه وبعث خير رسله ليقيم العدل ويرسي دعائم الحق ، لتعود الحقوق إلى أصحابها ، ويشعر الناس بالأمن والأمان ، وبهذا أمر النبي – صلى الله عليه وسلم –  : { وأمرت لأعدل بينكم } ( الشورى : 15 ) .

فكان العدل من الأخلاق النبوية والشمائل المحمدية التي اتصف بها – صلى الله عليه وسلم – ونشأ عليها ، عدل وسع القريب والبعيد ، والصديق والعدو ، والمؤمن والكافر ، عدل يزن بالحق ويقيم القسط ، بل ويحفظ حقوق البهائم والحيوانات ، إلى درجة أن يطلب من الآخرين أن يقتصوا منه خشية أن يكون قد لحقهم حيف أو أذى ، وهو أبلغ ما يكون من صور العدل.

وبين يدينا موقف من المواقف التي تشهد بعظمته – صلى الله عليه وسلم - ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم شيئا ، أقبل رجل فأكب عليه ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون – وهو عود النخل - كان معه ، فخرج الرجل ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تعال فاستقد – أي اقتص مني - ) ، فقال الرجل : قد عفوت يا رسول الله) رواه النسائي .

 ومن داخل بيت النبوة تبرز صور أخرى للعدالة النبوية ، خصوصا مع وجود الخلاف الطبيعي والغيرة المعروفة بين الضرائر ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " أهدت بعض أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم - إليه طعاما في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : ( طعام بطعام ، وإناء بإناء) رواه الترمذي ، وأصله في البخاري .

ومن صور عدله – صلى الله عليه وسلم – العدل بين زوجاته حينما قام بتقسيم الأيام بينهن ، وكان يقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب ) رواه أبو داوود ، كذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا عقد العزم على السفر والمسير اختار من تذهب معه بالقرعة ، كما تروي ذلك عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها " متفق عليه ، يقول الإمام المناوي معلقا : " ( أقرع بين نسائه ) تطييبا لنفوسهن ، وحذرا من الترجيح بلا مرجح عملا بالعدل " .

وفي ظلال المنهج العادل للنبي – صلى الله عليه وسلم – عادت الحقوق إلى أصحابها وعلم كل امرئ ما له وما عليه ، وشعر الناس – مسلمهم وكافرهم – بنزاهة القضاء وعدالة الأحكام ، بعد أن وضع – صلى الله عليه وسلم – نظاما رفيعا وسنة ماضية تقيم الحق وتقضي بالعدل ، منهج فيه النصرة للمظلوم ، والقهر للظالم الغشوم ، فلا الفقير يخشى من فوات حقه ، ولا الغني يطمع في الحصول على ما ليس له ، ولا الشافعون يطمعون في درء حد من حدود الله تعالى ، ويشهد النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك فيقول ( ومن يعدل إن لم أعدل ؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل ) متفق عليه واللفظ لمسلم .

ففي قصة المرأة المخزومية التي سرقت ، استعان أهلها بأسامة بن زيد كي يشفع لهم عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم يقبل شفاعته ، وقال كلمة خلدها التاريخ : ( أيها الناس ، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايـم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) متفق عليه .

وفي يوم بدر أغلى النبي – صلى الله عليه وسلم - فداء عمه العباس بن عبدالمطلب حتى بلغ مائة أوقية ، ولم يقبل أن يتنازل الأنصار عنه شيئا ؛ حتى لا يظن ظان أن القرابة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تنفع صاحبها.

وعندما أراد النعمان بن بشير رضي الله عنه أن يشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – على هبة لأحد أولاده قال له : (  يا بشير ألك ولد سوى هذا ؟ ) فقال له :  نعم ، فقال له : ( أكلهم وهبت له مثل هذا ) ، قال : لا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم –  : ( فلا تشهدني إذا ؛ فإني لا أشهد على جور ) رواه مسلم .

وخوفا من تفويت حقوق البعض – لاسيما في القضاء – يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض – أي : أقدر على إظهار حجته - ، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها ) متفق عليه .

ويقرر النبي – صلى الله عليه وسلم – حقوق الضعفاء ، ويحذر الناس من بخسها فيقول : ( إخوانكم خولكم – أي من يخدمونكم - جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) رواه البخاري ومسلم ، ويقول أيضا : ( إذا جاء خادم أحدكم بطعامه فليقعده معه ، أو ليناوله منه ؛ فإنه هو الذي ولي حره ودخانه – أي الذي باشر الطباخة متحملا الأذى الحاصل من الحرارة والدخان - ) رواه ابن ماجة .

وأثنى النبي – صلى الله عليه وسلم – على بعض المواقف والكلمات التي كانت تصدر من أهل الجاهلية - على الرغم من كفرهم - لموافقتها للحق الذي جاء به ، وتحقيقا لقوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } ( المائدة : 8 ) ، فمن ذلك ثناؤه – صلى الله عليه وسلم – على لبيد بن ربيعة بقوله : ( أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ) متفق عليه ، وثناؤه على تحالف بعض أهل الجاهلية على نصرة المظلوم بقوله ( قد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت ) رواه الحميدي بسند صحيح ، وهذا من عدله عليه الصلاة والسلام وإنصافه .

بل حتى الحيوانات كانت تنال حظا من رعايته – صلى الله عليه وسلم – وعدله ، فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  حائطا لرجل من الأنصار ، فإذا جمل ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حن وذرفت عيناه ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عليه فسكت ، فقال : ( لمن هذا الجمل ) ، فجاء فتى من الأنصار فقال : لي يا رسول الله ، فقال له : ( أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها ؛ فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه – أي تتعبه ) رواه أبو داوود .

هذا هو سيد الأنبياء وإمام الأتقياء – صلى الله عليه وسلم - ، وهذه جوانب من سيرته العطرة محفوظة في ذاكرة التاريخ وفي ضمير البشرية ، شاهدة على قسطه وعدله .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة