- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:خواطـر دعوية
الجرجاني .. هو العلامة القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، الفقيه الشافعي الأديب الشاعر المحسن، قاضي قضاة الري، والمولود في حجود سنة 325، والمتنوفى سنة 392 رحمه الله.
قال فيه الثعالبي واصفا كثرة تطوافه وتقلبه في البلدان لتحصيل العلم:
"وكان في صباه خلف الخضر(يعني خليفة الخضر) في قطع الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم علما، وفي الكمال عالما، فهو حسنة جرجان، وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة، إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري وينظم عقد الإتقان والإحسان في كل ما يتعاطاه".
وقد استعمل أبو الحسن الجرجاني كل ما أوتيه من فضل وعلم وأدب وحسن نظم مع ما أوتيه من مروءة طالب العلم وتعففه لينظم هذه القصيدة التي يصف فيها ما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم من الاعتزاز بالعلم، وسمو الهمة، والترفع عن الدنايا والصغائر، وكل ما يشين من الأفعال والأعمال والخلائق؛ ليسمو به علمه إلى أعلى المقامات، وينبل قدره، وينتفع الناس به في الحياة وبعد الممات.
وصارت قصيدته هذه العصماء مضرب الأمثال، حتى سار بها الركبان، وتناقلتها أيدي وألسن ذوي العلم والإتقان والفضل والإحسان، وشهد لها كثير من أهل الأدب والعلم بحسن النظم وكمال المعنى وتمام الأدب، ونصحوا طلبة العلم بحفظها والعمل بما فيها.. ونحن هنا ننقلها لكل طالب علم يريد أن يسير على طريق الآباء ويحذو حذوهم في العفة والترفع والإباء، لعله يلحق بركبهم أو ينظم في سلكهم..
وقد اختلف في عدد أبيات القصيدة كما جاء في كتاب (صور من صبر العلماء) للشيخ عبد الفتاح أبي غدة حيث يقول ـ رحمه الله ـ في صفحة 352: "وقصيدته العصماء في وصف العالم الأبي، والاعتزاز بالعلم وسمو الهمة، مشهورة تناقلتها كتب الأدب وكتب الأخلاق والتعليم. واختلفت في تعدادها وترتيبها وألفاظها، وأوسع ما وقفت عليها فيه: (المضنون به على غير أهله) لعز الدين الزنجاني، بشرح عبيد الله بن عبد الكافي العبيدي، فقد أوردها الزنجاني 20 بيتا، وجاء في تعليقة بحاشية الشرح المذكور أنها تبلغ 44 بيتا، فأنا أنقلها هنا من كتاب الزنجاني، بزيادة البيت السادس عشر من كتاب "أدب الدنيا والدين للماوردي مع تعديل في البيت 3، 22 أخذا ببعض الروايات التي رأيتها في غير هذين الكتابين أكثر اتساقا مع المعنى". انتهى كلامه رحمه الله .. ومن كتاب الشيخ أبي غدة نقلتها هاهنا كما أثبتها هو وأكثر تشكيلها عنه.
يقول الإمام الجرجاني أبو الحسن رحمه الله تعالى:
يقولــون لي فيك انقبــــاض وإنمــــا .. ... .. رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم .. ... .. ومن أكرمته عزة النفس أكرمــا
ولم أقض حــق العلم إن كنت كلمـــا .. ... .. بدا طمـــع صيرته لي سلــــما
وما زلت منحــــازا بعرضــــي جانبــــا .. ... .. عن الذل أعتد الصيانة مغنـــما
إذا قيل: هــــذا منهل قلت قــــد أرى .. ... .. ولكن نفس الحر تحتمل الظـما
أنزهــــها عن بعض ما لا يشينـــــــها .. ... .. مخافة أقوال العــدا فيم أو لما؟
فأصــبح عن عيب اللــئيم مسلمـــــا .. ... .. وقد رحت في نفس الكريم معظما
وإنــي إذا مــا فاتني الأمـــر لــم أبت .. ... .. أقلب كفـــي إثــــره متــــندما
ولكــــنه إن جـــــاء عــفــــوا قبــــلته .. ... .. وإن مـال لم أتبعه هـــلا وليتما
وأقبض خطــــوي عن حظــوظ كثيــرة .. ... .. إذا لم أنلها وافر العرض مكرمـا
وأكــــرم نفسي أن أضــاحك عابســا .. ... .. وأن أتلقـــى بالمــديح مذمـما
وكم طــالب رقـــــي بنعمــاه لم يصل .. ... .. إليه وإن كان الرئيس المعظما
وكم نعمة كانت على الحــــر نقمـــة .. ... .. وكم مغنم يعـتده الحر مغـرما
ولم أبتـذل في خدمة العلــم مهجتي .. ... .. لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقــى به غرســـا وأجنــيه ذلــــــة .. ... .. إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
وإني لـــراض عـن فتــــى متعـــــفف .. ... .. يروح ويغدو ليس يملك درهـما
يبيت يراعـــي النجــم من سوء حاله .. ... .. ويصبح طــلقا ضـاحكا متبسما
ولا يســـأل المثـــرين ما بأكـــفـــهم .. ... .. ولو مات جوعا عفــة وتكــــرما
فإن قلت: "زنــــد العلم كاب"،فإنمـــا .. ... .كبا حين لم نحرس حماه وأظلما
ولو أن أهـــــل العلــم صــانوه صانهم .. ... .. ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهـــانوه فهـــانوا ودنـســــــــوا .. ... .. محـيــاه بالأطماع حتى تجـهما
وما كل بــــرق لاح لـــــي يستفزنـي.. ... .. ولا كل من لاقيت أرضاه منعـما
ولكن إذا ما اضــطرني الضـــر لم أبت .. ... .. أقلب فكــري منجدا ثم متهـما
إلى أن أرى مـــا لا أغـــــص بذكــــره .. ... .. إذا قلت قد أسدى إلي وأنعـما
قال التاج السبكي رحمه الله تعالى، بعد أن أورد هذه القصيدة الفائقة العصماء في ترجمة الجرجاني: " لله هذا الشعر ما أبلغه وأصنعه! وما أعلى على هام الجوزاء موضعه ! وما أنفعه لو سمعه من سمعه! وهكذا فيكن ـ وإلا فلا ـ أدب كل فقيه ، ولمثل هذا اناظم يحسن النظم الذي لا نظير له ولا شبيه، وعن هذا ينطق المنصف بعظيم الثناء على ذهنه الخالص لا بالتمويه".
فيا ليت كل عالم وطالب علم ينقش هذه الأبيات في صدر مجلسه، وعلى صفحة قلبه، ويجعلها دستوره في حياته، وإمامه في خلائقه!
ورحم الله الإمام الجرجاني، ونفعنا الله بنظمه ونثره، وعلمه وأدبه... آمين.