سرية ذات السلاسل

0 1767

لو سألنا التاريخ : ما هي السرية التي بسطت هيبة الدولة الإسلامية في شمال الجزيرة ، وكسرت عصا التمرد التي طالما أشهرتها بعض القبائل العربية الموالية للروم ، وكانت أيضا سببا في إسلام الكثير من أهالي بني مرة ، وبني ذبيان ، ودخول غيرهما في حلف مع المسلمين ، لأجابنا بدون تردد : إنها سرية ذات السلاسل ، التي وقعت في السنة الثامنة للهجرة.

وكان الباعث لهذه السرية ، هو إحساس النبي – صلى الله عليه وسلم – بالخطر المحدق بهم جراء التحركات المريبة التي تقوم بها قبيلة قضاعة ، والتي تنبيء عن وجود محاولات حثيثة للهجوم على المدينة وتطويقها .

ومن هذا المنطلق أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه بالنفير ، على الرغم من عودتهم القريبة من معركتهم في مؤتة ، ولم يمض وقت طويل حتى كان ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار على أهبة الانطلاق .

وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمرو بن العاص قائلا : ( خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني ) ، فأتاه رضي الله عنه وقد لبس عدة الحرب ، فقال له : ( إني أريد أن أبعثك على جيش ، فيسلمك الله ويغنمك ، وأرغب لك من المال رغبة صالحة ) .

لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يريد أن يستفيد من الخبرات القتالية لعمرو بن العاص رضي الله عنه ويتألف قلبه في الوقت ذاته ، فلم يمض على إسلامه وقت طويل ، لكن إجابة عمرو رضي الله عنه كانت تعكس رسوخ إيمانه ويقينه فقد قال : " يا رسول الله ، ما أسلمت من أجل المال ، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام ، وأن أكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " ، فتهلل وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – بشرا وقال له : (  يا عمرو ، نعم المال الصالح للمرء الصالح ) رواه أحمد .

وسار الجيش الصغير بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه مستحضرا وصايا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي كان يوصي بها البعوث ، وفي أثناء ذلك مر بموضع ماء يقال له " السلسل " ، ومن هنا جاءت تسمية هذه السرية ( ذات السلاسل ).

وترامت الأنباء إلى عمرو رضي الله عنه بالأعداد الكبيرة التي سيواجهها جيش المسلمين ، وحينها أدرك أن المعركة لن تكون متكافئة ، فأرسل رافع بن مكيث الجهني رضي الله عنه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يطلب المدد ، فبعث إليه بمائتي صحابي تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح ، وبصحبة أبي بكر الصديق و عمر بن الخطاب ، رضي الله عنهم أجمعين .

ووصلت الإمدادات إلى جيش عمرو بن العاص رضي الله عنه فتلقاهم المسلمون بالفرح الشديد ، وسار الجميع على نحو بالغ الحذر حتى لا يتمكن العدو من رصد تحركاتهم ، فكانوا يتابعون السير تحت جنح الظلام فقط مع الاختفاء في أوقات النهار .

وفي إحدى الليالي حاول بعض المسلمين إشعال النيران ليتقوا بها شدة البرد ، فنهاهم عمرو رضي الله عنه عن ذلك أشد النهي ، وهدد من يخالف أمره أن يلقيه في النار ، فشكى الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه شدة عمرو ، فذهب إليه وكلمه ، لكن عمرا رضي الله عنه أصر على رأيه ولم يتنازل عنه ، وكان إصراره مثار استغراب.

وعندما وصل الجيش الإسلامي إلى وجهته صال وجال موجها ضرباته المؤلمة على قضاعة ومن معها ، وأثخن فيهم القتل ، ولم يطل صمود الأعراب كثيرا فبادروا بالفرار ، وتأهب الصحابة لمتابعة فلولهم ، لكن عمرو بن العاص رضي الله عنه منعهم من الإقدام على ذلك ، وأصدر أوامره بالعودة ، فأطاعه المسلمون على مضض .

ثم جاء الموقف الثالث الذي أثار حفيظة البعض ، وذلك حينما تيمم عمرو بن العاص رضي الله عنه بدلا من اغتساله للجنابة ، وصلى بالناس إماما ، ولم ينجح أحد في كشف الغموض المحيط بتلك المواقف .

ووصل الناس إلى المدينة ، وكان أول ما فعلوه هو الذهاب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشكون إليه ما فعل بهم عمرو بن العاص رضي الله عنه في أثناء رحلتهم ، فسأله النبي عليه الصلاة والسلام  عن السبب الذي دعاه إلى فعل كل ذلك ، فبين أن منعه من إيقاد النار كان لأجل ألا يرى العدو قلة عددهم فيطمع فيهم ، وأن إصراره على عدم مطاردة العدو بسبب مخافته أن يكون الهروب مجرد كمين منصوب لهم ، وأن امتناعه عن الاغتسال بالماء كان استنادا إلى قوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ( النساء 29 ) ، وقد خشي على نفسه أن يهلك من شدة البرد ، فأعجب النبي – صلى الله عليه وسلم – بذكائه وحنكته ، وعلمه واجتهاده .

ومع ما حققته هذه المعركة من أهداف على الصعيد الميداني ، فقد أسهمت كذلك في إبراز عمرو بن العاص رضي الله عنه كشخصية فذة ، وقيادة حكيمة ، كان لها دورها في الفتوح الإسلامية بعد ذلك .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة