الجلاء الأول لليهود "بنو قينقاع"

2 1637

عند مقدم النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة كان من المنتظر أن يكون اليهود هم أول من يعلن الانضمام لقافلة الإسلام والتأييد دعوة التوحيد التي جاء بها ، وكان من المتصور أيضا أن يكونوا يدا للمسلمين ضد الوثنية وأتباعها ، فهم أتباع رسالة سماوية ، وقد قامت لديهم البراهين وجاءتهم البشارات بمقدم هذا النبي .

ولكن ما حصل هو العكس ، فكان اليهود أول من بادر إلى مقاطعة هذا الدين الجديد ، وإعلان الانحياز إلى قريش بعواطفهم وألسنتهم ودعاياتهم .

ومنشأ هذا الموقف ، هو الحسد الذي تولد في قلوبهم تجاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، حيث اصطفاه الله تعالى من أمة غير أمتهم ، ومن مجتمع مغاير لهم ، وكان ظنهم أن يكون مبعوثا فيهم ، إضافة إلى حنقهم وغيظهم على الانتشار السريع لدعوته عليه الصلاة والسلام .

من هنا عاش اليهود في عزلة تامة عن أهل المدينة ، ورفضوا الاندماج في المجتمع الإسلامي ، ولم يقفوا عند هذا الحد ، بل أطلقوا سيل المؤامرات والدسائس كمحاولة منهم للقضاء على الدولة المسلمة .

وكانت أول الجماعات اليهودية إعلانا لهذه العداوة بني قينقاع الذين كانوا يسكنون أطراف المدينة ، ولم يتوقفوا لحظة عن إحداث الشقاق وإثارة المشكلات بين صفوف المسلمين ، وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين ، وتأييد وتشجيع للمشركين .

وقد حاول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إرجاعهم إلى جادة الحق ، فجمعهم في سوقهم ونصحهم ، وخوفهم عاقبة كتمان الحق ، وذكرهم بمصير قريش في بدر ، فردوا عليه بكل سفه وحمق : " يا محمد ، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا – يعنون قلة خبرتهم في الحروب - لا يعرفون القتال ، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا " فأنزل الله عز وجل في ذلك قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ، قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار  } آل عمران : 12 – 13 ) ، رواه أبو داود .

وجاء الموقف الذي يؤكد الضغينة والحقد الذي يحملوه اليهود ، باستطالتهم على أعراض المسلمين ، فقد ذكر ابن كثير وابن هشام أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ في سوق بني قينقاع ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها ، فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا عليها ، فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه.

وأمام هذه التجاوزات الخطيرة ، لم يكن هناك مفر من حملة تأديبية تمنع من مثل هذه الممارسات مستقبلا ، فألغى النبي – صلى الله عليه وسلم – العهد الذي بينه وبين يهود بني قينقاع ، ثم أمر المسلمين بالاستعداد لمواجهة اليهود .

وانطلق الجيش في منتصف شهر شوال من السنة الثانية للهجرة متوجها إلى حصون بني قينقاع ، وعند الوصول ضرب عليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – حصارا محكما قطع عنهم كل الإمدادات ، واستمر ذلك الحصار خمسة عشر يوما ، حتى أعلن اليهود استسلامهم ونزولهم على حكم النبي – صلى الله عليه وسلم - .

وهنا لعبت العلاقات اليهودية مع المنافقين دورها ، فقد قام زعيم المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول بمحاولة تخليصهم من خلال شفاعته عند النبي - صلى الله عليه وسلم – ، فقد ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال :" يا محمد ، أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج قبل الهجرة – " ، فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " يا محمد ، أحسن في موالي ، فأعرض عنه ، فأدخل يده في ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وجذبه بقوة ، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمر وجهه وقال : ( أرسلني ) ، فقال له : " لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي ، قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني امرؤ أخشى الدوائر " فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هم لك ) ، رواه ابن إسحاق .

وفي المقابل يبرز الموقف الإيماني للصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه والذي كان حليفا آخر ليهود بني قينقاع ، فقد أعلن براءته من حلفائه بكل وضوح قائلا : " يا رسول الله ، أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم " رواه ابن إسحاق ، وقد سجل القرآن الكريم المفارقة بين الموقفين بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } (المائدة : 51 - 52 ) .

وصدر الحكم بإخراج يهود بني قينقاع من المدينة ، وغنم المسلمون ما لديهم من الأموال ، وتوجه القوم إلى منطقة يقال لها " أذرعات الشام " ، ولم يمض وقت طويل حتى هلك أكثرهم هناك ، وكان عددهم سبعمائة رجل .

وهذا الحكم الذي صدر من النبي – صلى الله عليه وسلم – كان لأجل ما بدر منهم من صد عن هذا الدين ورفض له ، فالوثيقة التي عقدها النبي – صلى الله عليه وسلم – مع سكان المدينة كانت تكفل لهم حرية البقاء والعيش فيها ، ولكن محاولاتهم المتكررة لإخلال الأمن وإشعال الاضطرابات في المجتمع المدني كان السبب الرئيسي في إجلائهم ، حتى يعود كيدهم في نحورهم ، ويزول الخطر من وجودهم .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة