مخافة أن تدركه الرحمة

0 1473

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لما أغرق الله فرعون قال : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } ( يونس : 90 ) ، فقال جبريل عليه السلام : يا محمد ، فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه ؛ مخافة أن تدركه الرحمة ) رواه الترمذي .

معاني المفرادت

حال البحر : طينة البحر

في فيه : في فمه

تفاصيل القصة

على مدار التاريخ القديم لم تشهد البشرية طاغية متجبرا ولا باغية متسلطا كمثل فرعون حاكم مصر ، فسيرته قد سطرت بدماء الآلاف من الأبرياء الذين وقعوا تحت سطوته ، ذلك الفرعون الذي نزعت الرحمة من قلبه فلم يعد لها مكان للضعفاء ولا المساكين ، ولا الأبرياء والمضطهدين ، لم يرحم أما ولا طفلا ، بل أصدر أوامره بقتل الأولاد واسترقاق النساء ، فكان حقا كما قال الله : { إنه كان عاليا من المسرفين } ( الدخان : 31 ) .

ومن إسرافه على نفسه وظلمه لها ادعاؤه بكل عنت واستخفاف الألوهية من دون الله ، ثم هو يسوق الدلائل الساذجة التي لا تقنع غرا ساذجا ، كما جاء في قوله تعالى : { ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون } ( الزخرف : 51 ) ، وقوله تعالى : { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين } ( القصص : 38 ) .

وتمر الأيام حتى تأتي نهاية هذا الظالم ، في مشهد ذكر القرآن لنا طرفا منه ، وجاءت القصة النبوية التي بين أيدينا لتضيف تفاصيل أخرى لتلك اللحظات ، فبعد أن ضرب موسى عليه السلام بعصاه البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، سار بقومه وجاوز بهم البحر ، فأتبعه فرعون بجنوده، حتى إذا تعمقوا في الدخول أمر الله البحر فانطبق عليهم ، ليغرق فرعون ومن معه ، قال الله تعالى : { فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم } (طه : 78 ) .

وفي هذه اللحظات الحاسمة التي أوشكت فيها الروح على الخروج ، اعترف فرعون بالألوهية علها ينجو من الموت ، قال الله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } ( يونس : 90 ) .

ويراقب جبريل عليه السلام المشهد ، ويخشى أن تدركه رحمة الله الواسعة فتقبل منه أوبته ، فيدفعه غيظه وحنقه أن يأخذ من طينة البحر ويدسها في فمه ، حتى يمنعه من نطق الشهادة الصحيحة في الوقت المناسب ، ولكن هيهات أن تقبل منه هذه التوبة وقد جاءت متأخرة للغاية ، قال الله تعالى : { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ، فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون } ( يونس : 91 – 92 ) .

وهكذا من الله على أمة بني إسرائيل ، فبموت فرعون انتهت فصول معاناتهم ، وتنسموا هواء الحرية والأمن والاستقرار بعيدا عن حياة الخوف والاستضعاف والإذلال.

وقفات مع القصة

قصة فرعون مليئة بالعظات والعبر التي يجدر الوقوف عندها والاستفادة من أحداثها ، ولعل أهم ما نستفيده منها بيان ملامح سنة الله تعالى في إهلاك الظالمين ، فنقول أولا : قد يتمادى الطاغية في ظلمه ، ويعيث في الأرض فسادا ، فلا ينزل عليه العذاب ولا يستحق العقاب مباشرة ، بل نرى الله سبحانه وتعالة يمهله ويعطيه الفرصة الكاملة للتوبة والإنابة ، وهذا هو عين ما حدث لفرعون فقد ظل على عتوه وجبروته وادعائه للألوهية سنين عددا ، ثم جاءه العذاب في نهاية المطاف ، على النحو الذي بيناه سابقا .

وما إهلاك الله للظالمين إلا بسبب ذنوبهم التي اقترفوها ، ويشير ربنا عز وجل إلى ذلك في قوله : { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين } ( الأنفال : 54 ) .

والعجب هنا يتملكنا من فرعون ، فقد رأى بعينيه البحر ينفلق فلقتين ، وهو يعلم يقينا صدق موسى عليه السلام ، وكان بإمكانه الهروب أو التراجع وفق منطق العقل ، لكن ذلك لم يكن ليرضي غروره وغطرسته ، حتى لاقى مصيره المحتوم .

ووقفة أخرى مع فضل هذا اليوم العظيم الذي أنجى الله فيه موسى عليه السلام وأظهره على عدوه ، فقد كانت اليهود تحتفل به شكرا لله ، كما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة واليهود تصوم عاشوراء ، فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : أنتم أحق بموسى منهم فصوموا ) .

وفي عدم قبول توبة فرعون في هذه القصة إشارة إلى أن من شروط التوبة أن تكون في زمن الإمكان والمهلة ، أما وقد بلغت الروح الحلقوم ، ووصل الإنسان إلى حال الغرغرة ، فهناك لا تنفع التوبة ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) رواه الترمذي و ابن ماجه .

ووقفة أخيرة مع درس من أعظم الدروس ، وهو أن النصر والعزة والتمكين للأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين أمر لابد منه ولو طال الزمن ، أو تأخر النصر .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة