- اسم الكاتب:د / سعيد عبد العظيم
- التصنيف:أحوال القلوب
إن الحج بمناسكه وأركانه وأعماله كله تمرين وتدريب على الطاعة المطلقة وامتثال الأمر المجرد ، بحيث تتحقق معاني العبودية أتم تحقيق. فالحاج يتقلب بين مكة ومنى وعرفات ومزدلفة ، ثم منى ومكة ، ويقيم ويرتحل ، ويمكث وينتقل ، ويخيم ويقلع ، وهو في ذلك كله طوع إشارة ورهين أمر ، ليس له اختيار مع الله عز وجل. إنه إذا نزل بمنى لا يلبث أن يؤمر بالانتقال إلى عرفات من غير أن يقف بالمزدلفة ، ويقف بعرفات ويبقى هناك منشغلا بالذكر والدعاء والعبادة.
وقد تحدثه نفسه بالبقاء هناك بعد الغروب ليستجم ويستريح لكنه يؤمر بالانتقال إلى المزدلفة ، وهو مطالب في حياته بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها لكنه في حجه يؤمر بترك صلاة المغرب في عرفة ـ لأنه عبد لربه ليس عبدا لهواه وبل ولا لصلاته وعاداته ـ فلا يصلي المغرب إلا في المزدلفة جمعا مع العشاء ، ويبيت في المزدلفة فلا يحيي الليل بالقيام ..
وهكذا كانت حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام نزول وارتحال ، مكث وانتقال ، عقد وحل، نقض وإبرام ، وصل وهجر ، لكن ذلك كله وفق مراد الله تعالى ، لا إجابة لشهوة ، ولا اندفاع وراء هوى ، ولا اتباعا لعادة.
الحج وتجديد الصلة بإبراهيم عليه السلام إمام الملة الحنيفية
إن هذه القصة التي حدثت قبل آلاف السنين قد طلب من جميع المحبين الصادقين المخلصين إعادتها إخزاء للشيطان ، وتقوية للإيمان ، واقتداء بخليل الرحمن : (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) (الحج: من الآية78)
فمن الواجب المحافظة على ما استفاض عن إمامها كخصال الفطرة ومناسك الحج ؛ ولهذا وقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: " قفوا على مشاعركم ، فإنكم على إرث من إرث أبيكم ". وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتظهر به الملة الحنيفية وتعلو به كلمتها.
ومناسك الحج وما يحيط بها من ذكريات وحوادث وما يتلبس به الحاج من إحرام وتجرد عن المظاهر ، وما يأتي به من عمل ونسك هو عبادة لله عز وجل وهو تخليد لما كان عليه الخليل عليه السلام من التوحيد والتوكل والجهاد في سبيل الله وإيثار لطاعته ومرضاته جل وعلا ، والتمرد على العادات الفاسدة والأعراف الزائفة .
لقد قدر الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام أن يواجه أباه الذي يصنع الأصنام وقومه الوثنيين ، وأن ينتقل ليواجه النمرود ـ الطاغية المتجبر ـ وألقي به في النار ، وأمر بذبح ولده ‘ وبتركه هو وأمه هاجر ، فاستسلم في ذلك كله لله وكان نعم العبد ( إن إبراهيم لحليم أواه منيب) (هود:75).
ما أعظم حاجتنا إلى الحج
ما أحوجنا لحجة حقا تعبدا ورقة ، نضبط بها الأقوال والأفعال والتصورات والمشاعر ؛ فالحج بمثابة عرضة سنوية للملة لتبقى هذه الأمة محتفظة بطبيعتها متصلة بتاريخها ، محفوظة بإذن الله من المؤامرات والمغالطات، وفي هذه الوقفة ينفي علماء الأمة عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وخرافة المخرفين ويردونها إلى الدين الخالص: (إن الدين عند الله الأسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) (آل عمران:19)
(ومن يبتغ غير الأسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران:85)
فيا له من اجتماع ندعو ربنا في علاه أن يجعله اجتماعا مرحوما.