- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:خواطـر دعوية
مازال أهل الفكر والنظر وأصحاب التتبع والاستقراء والمهتمون بأمر آخرتهم يرون في خواتيم الناس العجب العجاب، ما بين عبد يختم له بالخير وآخر يختم له بخاتمة لا تفسر إلا على أنها خاتمة سيئة وآخرة مرة، وهذا مصداق ما جاء في حديث الصادق المصدوق الذي رواه الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه ما سبق له في الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه ما سبق له في الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".
وما جاء في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة".
وما زالت الخواتيم تأتي بالعجائب في الجانبين جانب الخير وجانب الشر:
ففي الجانب الأول حوادث تبعث على الانشراح والسرور وتشير إلى حسن عاقبة أصحابها ومما رواه أهل العلم في ذلك: ما جاء عن عبد الله بن شبرمة قال: دخلت أنا وعامر الشعبي على مريض نعوده، فوجدناه يحتضر، ورجل يلقنه الشهادة. يقول: قل لا إله إلا الله، يكثر عليه. فقال الإمام الشعبي: أرفق به. فتكلم المريض فقال: إن تلقني أو لا تلقني، فإني لا أدعها. ثم قرأ: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها)[الفتح:26]، ثم مات. قال الشعبي: الحمد لله الذي نجى صاحبنا هذا.
· وقيل للجنيد عند موته: قل لا إله إلا الله. فقال: ما نسيته فأذكره.
· وكان ابن عساكر وقورا مهيبا، لما احتضر جعلوا يقولون له: يا سيدي ماذا تجد؟ فلا يقدر على النطق. فكتب بأصبعه في الهواء: "روح وريحان وجنة نعيم". ثم مات رحمه الله.
· وقد ترجم الإمام الذهبي لبعض أهل الصلاح فقال الإمام الزاهد: كان كثير الذكر، فلما احتضر كانت آخر كلمة قالها: (يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)[يس:26،27].
وعلى الجانب الآخر خواتيم أخر لا أرانا الله إياها ولا أمثالها.. ومنها:
· أنه لما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة كان فيمن هاجر إليها أم حبيبة وزوجها عبيد الله بن جحش، وهناك ارتد عبيد الله وتنصر ومات هناك نصرانيا على ملة أهل الصليب.
· وقيل لبعض أهل زماننا وهو يحتضر: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: ما في فايدة، ما في فايدة؛ حتى مات.
· وقيل لأحدهم: قل لا إله إلا الله. فقال: هو كافر بما تقول.
· وقيل لأحدهم: قل لا إله إلا الله. فقال: وما تغني لا إله إلا الله ولم يركع لله ركعة (يعني نفسه).
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله صورا من هذه الخواتيم التي تنخلع لها القلوب في كتابه الداء والدواء وغيره.
وفي قصة من أعجب ما يمكن أن تقرأه حكى الإمام ابن كثير عن أبي علي البكاء، وكان مشهورا بالصلاح والعبادة والإطعام لمن قربه من المارة والزوار، يقول: إنه خرج معه رجل من بغداد، فانتهوا في ساعة واحدة إلى بلدة بينها وبين بغداد مسافة بعيدة، وأن ذلك الرجل قال له إني سأموت في الوقت الفلاني فأشهدني في ذلك الوقت. قال: فلما كان ذلك الوقت حضرت عنده وهو في السياق – الاحتضار - وقد استدار إلى جهة الشرق (جهة بيت المقدس قبلة النصارى)، فحولته إلى القبلة فاستدار إلى الشرق، فحولته أيضا ففتح عينيه وقال: لا تتعب نفسك فإني لا أموت إلا على هذه الجهة. وجعل يتكلم بكلام الرهبان حتى مات!!. فحملناه فجئنا به إلى دير هناك فوجدناهم في حزن عظيم، فقلنا لهم: ما شأنكم؟ فقالوا: كان عندنا شيخ كبير ابن مائة سنة، فلما كان اليوم مات على الإسلام. فقلنا لهم: خذوا هذا بدله وسلمونا صاحبنا. قال: فوليناه فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين، وولوا هم ذلك الرجل فدفنوه في مقبرة النصارى، نسأل الله حسن الخاتمة.
- فكم من ناصية خاشعة أمام الناس قد كتب عليها النار.
- وكم ممن ركب بحر الحياة فلما قارب شاطئ النجاة أصابه موج فغرق.
- وكم سمعنا عمن آمن ثم كفر.
- وكم رأينا من استقام ثم انحرف.
شاهدنا وقرأنا عمن عمل بعمل أهل الإيمان وختم له بعمل أهل الكفران والعكس.
وحقيقة الأمر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن "الأعمال بالخواتيم"، فإن الخواتيم مرايا الأعمال، وصور لحقائق الأحوال، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".. وربما سمع البعض هذا الحديث فتوهم أن الأمر هين، وأن المسألة يسيرة، وإنما هي كلمة؛ كلا والله.. وإنما هي خاتمة ينقسم الناس بها صنفين: صنف مقرب مصان، وصنف مبعد مهان.
صنف نصبت له الحجال (الأرائك) وتحققت له الرغائب والآمال. وصنف أعدت له المقامع وهيئت له الأغلال والأهوال.
والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب أراد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب أراد أن يزيغه أزاغه. وليس العجب ممن هلك كيف هلك، فإن أودية الهلاك كثيرة وأسباب العطب وفيرة، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا. ولذلك كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
فيما يبدو للناس
وقد يقرأ بعض الناس حديث ابن مسعود السابق، أو يسمعه فيشكل عليه، وربما يرى أحدهم رجلا يعمل أغلب حياته بعمل أهل الإيمان ويسعى سعي أهل الجنان ثم تكون الخاتمة على النقيض من هذا على التمام، أو ربما يكون العكس هو الواقع فربما يدخل عليه الاندهاش ويشكل عليه الأمر.
ولا عجب من ذلك إذا علمنا حقيقة الأمر كما بينها الشرع وفسرها أهل العلم.. وقد ورد بيان بعض ذلك في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصحيح عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون... وفي أصحابه رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه من أهل النار". فقال رجل من القوم: أنا صاحبه. قال: فخرج معه فكلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه. قال: فخرج الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع سيفه على الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه. فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله قال: "وما ذاك؟". قال الرجل: الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه ثم جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. ويعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". زاد البخاري: "وإنما الأعمال بالخواتيم".
فانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام "فيما يبدو للناس"، وواضح أن باطنهم خلافه وشاهد ذلك في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة مع عظم أعمالهم فيما يبدو للناس (عالم، ومنفق، وشهيد) لكن فسدت نياتهم وأرادوا غير وجه الله فكانت العاقبة على مكنونات صدورهم لا على حسب علم الناس عنهم. وربما كان الإنسان في بعض الأوقات يعصي الله ولكن فيه من الانكسار والخوف والخجل وكره المعصية والرغبة الصادقة في التوبة ما يغلب عليه في آخر العمر فيختم له بخير والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ولا يظلم ربك أحدا
وليس في الأمر ظلم لأحد – حاشا لله – وإنما المسألة مسألة قلوب اطلع عليها علام الغيوب، فرأى فيها ما يستوجب حسن الخاتمة أو سوءها، وقد يكون ظاهر العبد الإيمان وقلبه قد غلفه الكفر الصراح، وقد كان المنافقون يصلون ويصومون ويحجون ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه ولسم والله يشهد إنهم لكاذبون.
وقد يكون ظاهر الإنسان التقوى والخشوع والورع، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها وركبها.
وربما كان الإنسان يظهر التخشع والتواضع في ظاهره ولكن قلبه يقطر كبرا وحبا للعلو على الخلق.
وأما أن يكون الإنسان صادقا مخلصا عاملا لله في سره وجهره ثم يختم له بسوء فهذا مما لا يكون أبدا ولا يتوافق مع عدل الله وحكمته.. ولذلك قال ابن القيم – رحمه الله – مطمئنا أهل الإيمان ما معناه: "حاشا لعدل الله وحكمته أن يختم بالسوء لمن كان صادقا ظاهرا وباطنا واستقام على ذلك".
قال أبو محمد عبد الحق: "اعلم أن سوء الخاتمة – أعاذنا الله منها – لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم به – والحمد لله – وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل والعقيدة، أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله ثم العياذ بالله.
أو يكون ممن كان مستقيما ثم يتغير عن حاله ويخرج عن سننه ويأخذ في طريقه فيكون ذلك سببا لسوء خاتمته وشؤم عاقبته؛ كإبليس الذي عبد الله فيما يروى 80 ألف سنة، وبلعام بن باعوراء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بخلوده إلى الأرض واتباع هواه، وبرصيصا العابد الذي قال الله في حقه: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين)[الحشر: 16].
قال ابن رجب: "إن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمله ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة".
وقد قيل: دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة.
اللهم اختم لنا بالصالحات وارزقنا الصدق في جميع الأحوال والأعمال.. يا أكرم الأكرمين.