أنا فلان بن فلان

0 1551

نص الحديث

عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال :  انتسب رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : " أنا فلان بن فلان ، فمن أنت لا أم لك ؟ " ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام ، فقال أحدهما : " أنا فلان بن فلان - حتى عد تسعة - ، فمن أنت لا أم لك ؟ " ، قال : " أنا فلان بن فلان بن الإسلام " ، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين : أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار ، فأنت عاشرهم ، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة ، فأنت ثالثهما في الجنة ) رواه الإمام أحمد .

معاني المفردات

لا أم لك: كلام جرى مجرى المثل، ومعناه : أنت عندي ممن يستحق أن يدعى عليه بفقد أمه

تفاصيل القصة

{ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } ( الحجرات : 13 ) ، خطاب إلهي يهتف بالبشرية كلها على اختلاف مشاربها وتنوع مجتمعاتها ، ليبين أن اختلافها في الأجناس والألوان ، وفي الأعراق والأوطان ، إنما هو سنة من سنن الحياة ، وتقدير من الحكيم الخبير ، ليجعل من ذلك التنوع سبيلا إلى تآلف الشعوب وتعارفها ، وتوثيق الصلات بين أفرادها.

والله سبحانه وتعالى أقام التقوى أساسا للمفاضلة بين الناس دون غيرها من الأسباب ،  ويأبى البعض إلا أن يطرح هذا الميزان الذي اختاره الله جانبا ، ويرفع لواء الجاهلية ، وتفاخرها الباطل بالآباء والأجداد ، ويجمع إليه تحقير الآخرين وذمهم ، واستصغار شأنهم .

وتاريخ هذه العصبيات المقيتة طويل ، يمتد جذروه إلى الأمم السابقة ، فقد رصد لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحد المواقف التي جرت وقائعها في الأمة اليهودية ، وكان فيها الافتخار بالنسب على حساب الدين والأخلاق ، وقد أخبر بها عليه الصلاة والسلام في معرض تحذيره المسلمين من ذلك الخلق الذميم .

ومدار هذه القصة على رجلين ، افتخر أحدهما بسلالة آبائه وأجداده ، ولم يكن اعتزازه بهم مبنيا على صلاح ودين عرفوا به ، أو قيم أخلاقية ومباديء نبيلة اتصفوا بها ، بل جعل أساسها علو النسب ، ولذلك نجد – بنص الحديث – تجاهله لكفر أسلافه الذين افتخر بهم .

ومما زاد من شناعة موقفه وعظم خطيئته ما صدر منه من ألفاظ الاحتقار والازدراء ، فقد قال لصاحبه : " فمن أنت لا أم لك ؟ " ، وفي المقابل جاء جواب الآخر ورده دالا على حكمته ورجاحة عقله ، فقد أجابه إجابة ذكية تذكر بحقيقة المفاضلة بين الناس : " أنا فلان بن فلان بن الإسلام " ، ونلحظ اكتفاءه بذكر اثنين من آبائه لأنهما عاشا مؤمنين ، ثم نسبة نفسه إلى الإسلام ، وهو الوصف الأهم الذي تتوارى عنده بقية الأوصاف الأخرى .

وهنا ينزل الوحي الإلهي على سيدنا موسى عليه السلام ليفصل في القضية ويبين المكانة الحقيقية لكل منهما : " أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار ، فأنت عاشرهم ، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة ، فأنت ثالثهما في الجنة " .

وقفات مع القصة

إن القضية الأساسية التي أراد الحديث النبوي تحقيقها وتثبيتها في قلوب المؤمنين هي تعميق رابطة الأخوة بينهم ، وجعلها أوثق العرى وآكد الصلات ، ولا يكون الحفاظ على تلك الأخوة إلا بالنهي عن كل ما يضعف بنيانها الإيماني ويوهي نسيجها الاجتماعي ، وذلك من خلال قطع التفاخر بالأنساب والتعصب للقبيلة ، لما يسببانه من إشعال للعداوات ، وتفريق للجماعات ، وإثارة للنعرات والخصومات .

من أجل ذلك ، أولى النبي – صلى الله عليه وسلم – اهتمامه بهذه القضية في عدد من الأحاديث ، منها قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الله أوحى إلي أن توضعوا حتى لايبغي أحد على أحد ، ولا يفخر أحد على أحد ) رواه مسلم ، وعد النبي – صلى الله عليه وسلم – التفاخر بالأنساب من أخلاق الجاهلية فقال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ) رواه مسلم .

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ( إن أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد ، وإنما أنتم ولد آدم ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح ) رواه أحمد .

ويوم فتح مكة خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قائلا : ( يا أيها الناس ، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية – أي تفاخرها - وتعاظمها بآبائها ؛ فالناس رجلان : بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله ، والناس بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب ) رواه الترمذي .

بل شدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في التحذير من هذا المسلك فقال : ( ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان – وهي نوع من أنواع الحشرات -  التي تدفع بأنفها النتن ) رواه أبو داود .

وحين اختصم رجل من المهاجرين مع آخرين من الأنصار ، فقال الأنصاري : " ياللأنصار " ، وقال المهاجري : " ياللمهاجرين " ، وبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : ( ما بال دعوى الجاهلية ؟ ، دعوها فإنها منتنة ) متفق عليه .

على أن تلك الأحاديث لا تعني الدعوة إلى إهمال الأنساب وتضييعها ، إنما المذموم هو ما تؤول إليه من ممارسات جاهلية وعصبيات قبلية تعكر صفو الأخوة بين المؤمنين وتحدث الكراهية والشحناء بينهم ، فتعلم الأنساب شيء ، والتفاخر بها شيء آخر ، وقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله : ( تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ) رواه الترمذي .

ومن اللفتات اللطيفة التي تحسن الإشارة إليها هنا ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعتمد تقسيم جيوشه أحيانا على أساس قبلي ، ليكون عاملا من عوامل إذكاء روح المنافسة الشريفة والحماسة في القتال ، كما حدث في غزوة بدر حينما قسم الصحابة إلى ثلاثة ألوية ، لواء للأوس و لواء للخزرج ولواء للمهاجرين ، وكما حدث كذلك يوم فتح مكة ، فهو إذا توجيه نبوي متميز للانتماء القبلي وتوظيف له على أحسن الوجوه .

وأخيرا : فإن أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – نالت عزتها ومكانتها بالإسلام فحسب ، ومن ابتغى العزة بغير هذا الدين أذله الله ، وصدق الشاعر إذ قال :

          إن لم تكن بفعال نفسك ساميـا       لم يغن عنك سمـو من تسمـو به

              ليس القديم على الجديد براجـع       إن لـم تجـده آخـذا بنصـيبه

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة