صيغة (فَعُلَ) في القرآن الكريم نماذج ودلالات

1 1442

تمتاز صيغة (فعل) من بين صيغ الأفعال الثلاثية المجردة بأمور, منها: أنها لا تكون إلا لازمة, فالفعل قاصر على الفاعل غير مجاوز له. وإسنادها إلى الفاعل ليس إسناد حدث إلى محدثه, وإنما هو أقرب إلى وصف الفاعل بالفعل؛ ذلك أنها تحمل معاني الغرائز والسجايا والطباع والأعراض. كما تتميز عن سائر الأفعال المجردة بدلالتها على التعجب والمبالغة, وأنك إذا أردت التعجب من أي فعل حولته إلى فعل.

وكأن هذه الصيغة كما قلت عن صيغتي فعل وفعل في مقدار شيوعها في اللغة فقد قلت عنهما أيضا في الدلالة؛ فاتسعت فعل؛ لكونها أخف الأبنية وأعدلها, وقلت عنها فعل؛ فدلت على الأدواء والأعراض, وعلى غير ذلك, وظلت  فعل الأكثر  تحديدا في الدلالة.  وقلت عنهما كذلك في الاستعمال اللغوي؛ فالأوليان تأتيان متعديات ولازمات, وفعل لا يكون إلا لازما.فصيغة فعل أكثرها متعد, وصيغة فعل أكثرها لازم, أما فعل, فلازمة دوما.

وقد نقصت فعل في القرآن الكريم عن فعل وفعل من حيث مرات ورودها, نقصانا بينا ملحوظا. وكان منها ما دل على التعجب والمبالغة, وما دل على السجايا والطباع والصفات.

ومن تلك الصيغ طهر و خبث وكبر, وسأتطرق في هذه العجالة إلى هذه الأفعال من الناحية الصرفية الدلالية في ضوء المعارف الشرعية.

وردت " طهر" في قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (البقرة:222) .

و(طهر) هنا من الأفعال الدالة على الخصال, وهي مثل الأفعال الدالة على الحسن والجمال, كـ (حسن) و(جمل) أي: صار حسنا وجميلا.

وقد أورد سيبويه مجموعة من الأفعال في باب الأفعال التي تكون خصالا, وذكر منه طهر, قال: "وقالوا: نظف نظافة ونظيف, كصبح صباحة وصبيح, وقالوا: طهر طهرا وطهارة وطاهر".

يلمح في الفعل (طهر) الوارد في  الآية الكريمة, وهو المسند إلى نون النسوة, معنى المبالغة والتأكيد على حصول الطهارة, ثم ينبني الحكم بإباحة إتيان الزوجات على التطهر, وقد تمثلت الآية الكريمة أسلوب الترقي في الطلب؛ فقد نهت أولا عن الاقتراب منهن حتى يطهرن{ولا تقربوهن حتى يطهرن}، ثم أذنت بإتيانهن بعد التطهر {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}.

وقد اختلف المفسرون والفقهاء في الأحكام الشرعية المستفادة من الآية, إلا أنهم فرقوا بين الطهر والتطهر, بناء على الفرق بين صيغتي طهر وتطهر , قال الزمخشري: "والتطهر: الاغتسال, والطهر: انقطاع دم الحيض".

ولعل أخص ما في (طهر) هنا دلالتها على  التحول, وهو من معانيها المقررة في اللغة: قال المبرد في "المقتضب" تحت عنوان: "مخارج الأفعال واختلاف أحوالها" ما حاصله: والفعل الثالث لما لا يتعدى خاصة, إنما هو للحال التي ينتقل إليها الفاعل, وذلك ما كان على فعل... وذلك كقولك: كرم زيد... والتقدير : ما كان كريما, وقد كرم. فهي تدل على عرض, لكنه ليس من الأعراض الثابتة ك" فقه"؛ لأن الطهارة من الأعراض القابلة للزوال, وهنا قد يسأل سائل؛ فيقول: إنا نعلم أن  المؤمن لا ينجس؛ فكيف تفارقه الطهارة إذن؟ والجواب أنها مفارقة معنوية؛ بأسباب حددها الشرع, وتزول بأسباب بينها: بالغسل, أو الوضوء.

والخلاصة أن النهي عن الاقتراب من الزوجات يزول حين يكتمل التحول إلى الطهارة, ويتأكد من ذلك؛ لأن هذا ما تختص به طهر عن غيرها, ففيها الصفة وزيادة .

وعلى النقيض من (طهر) تأتي (خبث) في قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون} (الأعراف:58)، فكما أفادت (طهر) معنى المبالغة والتحول, كذلك (خبث), وقد ضرب الله فيها مثلا, قال الطبري: " فالكافر كالبلدة السبخة المالحة التي لا تخرج منها البركة, فالكافر هو الخبيث, وعمله خبيث"؛ والكافر صار  خبيثا بسبب تحوله إلى الكفر, ويصح أن نصفه بالتحول, وإن لم يكن مرتدا؛ لأن الله خلق الناس على الفطرة والإيمان؛ فاجتالتهم الشياطين؛ فتحولوا إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية أو غيرها. ويحمل (خبث) هنا معنى المبالغة؛ لأن التحول جوهري وكلي, يشمل العقيدة بما تنطوي عليه من تأثير على السلوك العام .

ومن الأفعال التي يبرز فيها معنى المبالغة (كبر) في قوله سبحانه: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} (الأنعام:35)، فأوضح ما في صيغة (كبر) هنا دلالتها على المبالغة؛ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إسلامهم, وقد تضافرت الآيات على بيان هذه الصفة في النبي عليه السلام, بل إن الله طلب منه أن لا يذهب نفسه عليهم حسرات, من رأفته بهم, فالمراد من الآية " بيان حرصه على إسلام قومه..., وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض, أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم ".

ومثلها في المعنى العام (كبر) في قوله تعالى: {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} (الشورى:13)، غير أنها تفيد مع ذلك أنهم استصعبوه, ورأوه عسيرا, كما في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} (البقرة:45). وقد تحمل الصيغة مع المشقة معنى التعجب والاستهجان؛ لأن مجرد المشقة والكلفة حاصلة مع كثير من التكاليف الشرعية, حتى مع المؤمنين, لكنهم يمتثلون لها عن رضى وانقياد, أما الكفار فهم يستهجنونها وتعسر عليهم, بمعنى أنهم يعجزون عن تحملها.

وتختلف (كبر) فيما سبق عنها  في الآية: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} ( الصف:3)؛ وفي: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (الكهف:5)؛ إذ إنهما متجردتان للتعجب, فالأولى: تفيد التعجب من القول الذي لا يتلوه الفعل. والثانية: تفيد التعجب من قولهم: اتخذ الله ولدا. قال ابن هشام: "ولهذا يتحول المتعدي قاصرا إذا حول وزنه إلى (فعل) لغرض المبالغة والتعجب, نحو ضرب الرجل, وفهم, بمعنى: ما أضربه, وأفهمه!"، ومعنى الصيغة: تعظيم تلك الأفعال المتعجب منها في الآية في قلوب السامعين؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره, "فقولهم ما لا يفعلون مقت خالص, لا شوب فيه؛ لفرط تمكن المقت منه"، وكذا قولهم: اتخذ الله ولدا, بل هو أعظم.  

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة