- اسم الكاتب:الشيخ عبد السلام البسيوني
- التصنيف:من أعلام الدعوة
وأخيرا مات حسن المعايرجي.. العملاق صورة ومعنى.. وذلك يوم الأربعاء 29 محرم 1429 هـ الموافق 6/2/2008.
هل سمعت به قارئي العزيز ؟ أشك كثيرا!
ذكرني موته بموت المنفلوطي رحمهما الله.. فقد مات المنفلوطي يوم مات سعد زغلول، فالتفت الناس لزغلول ونسوا المنفلوطي، حتى قال فيه شوقي:
اخترت يوم الهول يوم وداع.... ونعاك في عصف الرياح الناعي
وكما مات القاضي العالم أحمد عبد الرحمن المعلمي يوم مات أحمد ياسين، واليمن مقلوبة رأسا على عقب، فلم يلتفتوا لموت المعلمي! فقد مات المعايرجي أيضا يوم مات العالم الجليل الدكتور بكر أبو زيد لينشغل الناس به، ويتكلموا عنه، ولا يلتفتوا إلى المعايرجي.. عليهم رحمات الله ورضوانه!
ولن أجدد الكتابة فيه فأنا والله مفجوع فيه فجيعتي في الأمة التي ترقص في سرادق العزاء.. وحسبي أن أسوق بعض ما كتبته في الشيخ من قبل:
لم أر في عمري رجلا يعشق قضية ويعطيها عمره، ووقته، وماله، وقلبه، وأعصابه، كهذا الرجل الذي أكسر به قاعدتي في عدم الكتابة عن أشخاص حولي، حتى أحافظ على حياد قلمي، وصدق عبارتي، وبقاء رأيي من قلبي - وحده - وأتجنب الوقوع في أن أقول كلامـا لا يرضي الحق، أو لا يرضي أهل الحق.
كسرت القاعدة لأن الرجل ببساطة مهضوم منسي!
ولعلي لا أفتئت إذا قلت إنه قوبل بالتجاهل مع سبق الإصرار، رغم أنه كان يقوم بعمل مؤسسة كاملة، هو مديرها، وفراشها، وهيئة الباحثين بها، وهو الراصد، والمترجم، والمراسل، وعامل الأسانسير.. ويجعلك - بصدق - تحس بالفرق بين النائحة المستأجرة وبين الثكلى..
بين أن يكون الرجل صاحب قضية يتعب لها، ويبح صوته من أجلها، ويتحسر لتجاهل من حوله لها، وبين أن يكون تاجر ثقافة، منها " يتسبب "، وبها يستفيد، ويأكل من عوائدها " الفالوذج بدهن اللوز ".
وقضية حسن المعايرجي الكبرى كانت: القرآن الكريم، رغم أنه ليس أستاذا في كلية الشريعة، ولا متخصصـا في علوم القرآن - بمعناها المعروف - بل هو أستاذ أكاديمي في الأحياء الدقيقة " الميكروبيولوجي " أدمن التعامل مع الفطريات والميكروبات والفيروسات وما شابه.. ولكن الله تعالى ابتلاه بفضول وغيرة إسلامية، دفعاه ليسأل نفسه حين كان يدرس الدكتوراه في ألمانيا:
كيف نوصل القرآن الكريم لغير الناطقين بالعربية ؟
ولما حاول البحث عن هذا السؤال وجد نفسه أمام متاهات وأحجيات، وعراقيل ومشكلات، وأمور تحير الحليم: مئات الترجمات الحقيرة لكتاب الله تعالى، بمئات الطبعات ومئات اللغات، بمئات الأشكال والأحجام "اقترفها" قساوسة وحاخامون، ودجاجلة ومستشرقون، كلهم "يؤلف" شيئـا يسميه ترجمة، مرة تحت اسم "قرآن محمد" ومرة "أحاديث محمد على المائدة" وثالثة "مختصر القرآن" ورابعة أهم عشر سور.. جرأة رهيبة، وإهانات بشعة ضد القرآن الذي أهين حين هان على أصحابه، ولا من منتبه، ولا من غيور، ولا رقيب ولا حسيب.
انتبه المعايرجي قبل أربعين سنة، وبدأ يصرخ ويستغيث، عبر الصحف والمجلات العربية وغير العربية، وبدأ بجمع الترجمات ويوصفها، ويؤلف الببليوغرافيات، ويكتب المقالات، وينشر في الدوريات، ويراسل المهتمين من أقاصي المعمورة، ليحصل بأية طريقة على ترجمات لكتاب الله تعالى صحيحة أو محرفة، ثم يحاول - ما وسعته المحاولة - أن يقف في وجه التيار، فيتصيد بعض الترجمات المقبولة، ويجتهد في إيصالها إلى من يقرأ بلغتها، فيبدأ في الطباعة والتوزيع، يساعده في ذلك بعض المحسنين القطريين، ممن أدركوا أهمية عمق وحجم الجرح الذي يحاول علاجه، وتصل الترجمات بجهد فردي - تقريبـا - إلى بقاع كان من المستحيل أن تسمح بمرور نملة تقول لا إله إلا الله محمد رسول الله.. دخلت إلى الصين الشيوعية، والاتحاد السوفييتي، وأفغانستان، ويوغوسلافيا، وإلى أفريقيا، وأوروبا، بلغات عديدة، وطبعات نادرة فريدة في الثمانينيات والتسعينيات.
باتت قضية الترجمات المحرفة هاجسـا يستولي عليه، ويحركه، حتى كان حلم في يقظته بقيام مؤسسة عالمية لخدمة كتاب الله عز وجل: طباعة وتفسيرا وترجمة ورصدا ودفاعـا.
وخطط لقيام هذه الهيئة من الفراش إلى رئيس مجلس الإدارة، وحدد أقسامها ولجانها، ومسؤولياتها، وحجمها المادي والمعنوي، ودورها في الخدمة الشاملة ؛ بعد أن لاحظ وجود هيئات إسلامية تتبع منظمة المؤتمر الإسلامي لكل شيء، حتى للكرة.. اللهم إلا القرآن وحده، فهو الذي لا كيان له يدافع عنه، ويغار له.
رسم الفكرة وبلورها وحده، أعانه على ذلك ربه عز وجل، ثم جلده ودأبه الفائقان، واستفادته من معرفته بلغات أوروبية، وبالكمبيوتر، وبعمله السابق أمينـا لمركز البحوث العلمية والتطبيقية بجامعة قطر، فحصل ما لا يقدر على تحصيله عشرات غيره، حتى إنني أزعم أنه رائد مستكشف لفرع جديد من فروع علوم القرآن ينبغي أن يهتم له المختصون، ويستفيدوا منه، ويبنوا عليه، فإذا كان الدارسون لعلوم القرآن الكريم يتحدثون عن الناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والمحكم والمتشابه، وأسباب النزول، ومناهج المفسرين وما شابه، فإن المعايرجي قد فتح بابـا جديدا حاول بعض السابقين أن يطرقوه لكن لم يجترئوا على اقتحامه كما اجترأ هو: باحثـا ومؤصلا وجامعـا ومحللا، ثم منبهـا ومحذرا، وواضعـا علامات على الطريق، وإشارات هامة لمن يسلكه بعده، تتمثل في كتابين - بالعربية والإنجليزية - عن الترجمات وتاريخها ومدارسها ونماذجها، وخريطة شديدة الأهمية والاستيعاب لحركة الترجمة منذ سنة 1143م، ثم مكتبة نادرة وشديدة الثراء، فيها مئات من الترجمات والطبعات باللغات العالمية والمحلية، الحية والمنقرضة.
وأتمنى على الله تعالى أن تهتم بهذه المكتبة - وأصحابها - مؤسسة دعوية أو أكاديمية كوزارة الأوقاف أو جامعة قطر أو دار الكتب، لأنها كنـز، أظن أنه ليس موجودا في كبريات المكتبات العامة والخاصة.. وحرام أن يبقى دفيـنـا أو مجهولا.
وكانت آفة الدكتور المعايرجي أنه ظل بعيد كثيرا عن الأضواء، لا تعرفه الصحافة، ولا يأبه له التلفاز، ولا يحس به المحررون الذين يفتشون عن الرجل "النجم" الضليع في الإثارة والفرقعة بغض النظر عن المصداقية والموضوعية والجدوى، ولو كان يملك بعض مواهب التسويق والبهلوانية لكان له ولموضوعه ولمكتبته شأن آخر.
آفته أنه أكاديمي دقيق جاد تراثي، لا يزال يحب الخط الكلاسيكي، ويهتم بلوحات الثلث التي يكتبها حامد الآمدي وحسن جلبي وغيرهما.. ولا يعرف الدجل.. ولا يخرج من قبعته أرانب، لذلك فإن قضيته خافتة، حتى عن المعنيين بعلوم القرآن ودراساته!!
إنه يا سادتي قد امتلك - فعلا - ما لم يملكه كثير غيره، وأكمل نقصـا نحن في حاجة إليه.. أعانته على ذلك معرفته باللغات الأوروبية، ثم العشق المستبد لهذه القضية.
لقد قامت دول بطبع القرآن الكريم - وبعض الترجمات، وأقامت المملكة العربية السعودية مشروعـا ضخمـا "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف"، الذي يصفه الدكتور المعايرجي بأنه أعظم مشروع دعوي في القرن العشرين ( طبع منه نحو مائتي مليون نسخة من المصحف حتى الآن بحسب تقديراتي ).. فهل تعجز دولة إسلامية أن تتبنى المشروع الذي عاش المعايرجي عمره من أجله ؟
ثم أليس أولى الناس بذلك قطر التي أعطاها من عمره إحدى وأربعين سنة، منذ دخلها شابـا نحو سنة 1956م - وهو في مقتبل شبابه - حتى بارك الله في حياته فجاوز السبعين ؟!
إنها دعوة لوزارة الأوقاف القطرية ألا تفلت من يدها مشروع الهيئة العالمية للقرآن الكريم، وألا تفلت مكتبة المعايرجي النادرة.
ودعوة للمتخصصين في القرآن الكريم وعلومه أن ينتبهوا قليلا لهذا الجهد الذي دام ثلاثة عقود، غير مسبوق ولا مشكور.
ودعوة للأمة العربية أن تقدر أعلامها - الجادين - وتكرمهم، وترعى جهدهم، خصوصـا أولئك الذين عملوا في هدوء، وحرصوا على أن يفعلوا أكثر مما يقولون، ويعطوا أكثر مما يأخذون، ويصمتوا أكثر مما يضجون.
يا عميد كلية الشريعة.. يا وزارة الأوقاف.. يأيها المعنيون بالعلم الشرعي.. يا مجمع الملك فهد، يا مركز قطر الثقافي الإسلامي: ترحموا عليه ولا تهملوا مكتبته فإنكم أحوج ما تكونون إليها.
ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد.