شبهات وردود ....حول تعظيم الحجر الأسود

0 1966

شن أعداء الإسلام حملات واسعة تهدف إلى التشكيك في  الشريعة الإسلامية ، وذلك من خلال الطعن في شخص النبي صلى الله عليه وسلم ، وتناول سيرته بالثلب والتجريح تارة ، والكذب والتدليس تارة أخرى .

واليوم نجد أنفسنا أمام لون آخر من أساليبهم الملتوية في تشويه هذه السيرة العطرة ، وذلك عن طريق التشكيك في بعض ما جاء في شريعة الإسلام من ممارسات وعبادات ، وتصويرها على غير حقيقتها .

وفي هذا الإطار ، أثارت كتابات المستشرقين ومن سار على منوالهم شبهات حول تقبيل الحجر الأسود ، واعتبروا ذلك نوعا من الطقوس الوثنية التي سرت إلى الدعوة المحمدية تأثرا منها بالبيئة التي نبعت فيها ، وقد يفسر بعضهم ذلك بأنه نوع من المجاملة لقوم النبي صلى الله عليه وسلم في أسلوب العبادة السائد بينهم .

ولن نتعرض لتفسيرهم الأخير هذا لوضوح منابذة رسول الله صلى الله عليه وسلم للشرك والمشركين منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها دعوته ، وسنقتصر على بيان تلبيسهم فيما يتعلق بتعظيم المسلمين للحجر الأسود ، وإظهار وجه الحقيقة في ذلك .

وإذا كان هؤلاء المستشرقون يعدون تقبيل الحجر الأسود عبادة له من دون الله ، فلابد إذا أن نبدأ ببيان حقيقة العبادة وماهيتها .

إن من يعبد شيئا مهما كانت طبيعته فإنه يعتقد أن له سلطة غيبية ينعكس تأثيرها على الواقع ، وبالتالي فإن العابد يتقرب إلى معبوده رجاء للنفع أو دفعا للضر ، وهو في الوقت ذاته يعتقد أن التقصير في حق هذا المعبود أو ترك عبادته يترتب عليه حصول الضرر ووقوعه كنوع من العقاب ، ومثل هذا مشاهد حتى في واقع الناس اليوم من أتباع الديانات الوثنية المنتشرة في أرجاء الأرض ، إذ يلاحظ في أتباع تلك الديانات خضوعا لمعبوداتهم رغبة في جلب المنافع المختلفة ، أو دفع المضار من القحط والجفاف ونحوه ، مع تعلق قلوبهم بهذا المعبود خشية منه ورهبة من سلطانه .

وهذه السلطة الغيبية قد تكون في نظرهم سلطة ذاتية ، بمعنى أن العابد يرى استقلال معبوده بالنفع والضر ، وهذا كالذين يعبدون الشمس والكواكب لاعتقادهم بتأثيرها على نواميس الكون وتسييرها للخلائق ، أو أن تكون السلطة غير ذاتية بأن يعتقد أن معبوده يشكل واسطة بينه وبين قوة علوية  لها قدرة ذاتية مستقلة في النفع والضر ، فيؤدي ذلك إلى عبادته رجاء شفاعته عند من يقدر على النفع والضر ، كما هو الحال مع كفار قريش الذين كانوا يعتقدون أن الأصنام والأوثان التي يعبدونها تقربهم إلى الله جل وعلا ، وتشفع لهم عنده ، يقول الله عزوجل مبينا ذلك : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله } ( الزمر : 3 ) ، وفي موضع آخر : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } ( يونس : 18 ) .

وبناء على ما سبق ، فإن المسلمين لم يعبدوا الحجر الأسود ، لأنهم لا يرون أن أحدا يملك الضر والنفع غير الله تعالى ، فهم ينفون وجود أية سلطة ذاتية في المخلوقات مهما كانت ، كما أنهم يرون أن علاقة المخلوق بالخالق علاقة مباشرة ليس فيها وسيط ، وأن العباد لا يحتاجون إلى شفيع يقصدونه بالتقرب دون الله عزوجل ، بل إنهم يعدون ذلك من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام ، لأنهم يرون أن العبادات لا يجوز صرفها لأي مخلوق ، سواء أكان ملكا مقربا أم نبيا مرسلا ، فضلا عن كونه حجرا لا يضر ولا ينفع .

ويقرر ذلك الصحابي الجليل عمر بن الخطاب في مقولته الشهيرة : " إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك " ، فقد أراد أن يبين للناس أن هذا الفعل هو محض اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليس لأن الحجر ينفع أو يضر ، وعليه فإنه لا قدسية لأحجار الكعبة بذاتها ، وإنما اكتسب الحجر الأسود هذه المزية لأمر الله تعالى بتقبيله ، ولو لم يرد ذلك الأمر لم يكن لأحد أن يقوم بتقديسه أو تقبيله .

ثم إن رحى العبادة تدور على قضيتين أساسيتين : تمام المحبة مع غاية الذل والخضوع ، فمن أحب شيئا ولم يخضع له فليس بعابد له ، ومن خضع لشيء دون أن يحبه فهو كذلك ليس بعابد له ، ومعلوم أن تقبيل الحجر الأسود هو فعل مجرد من الخضوع والذل لذلك الحجر .

يضاف إلى ما سبق ، أن المسلم يعتقد فضيلة خاصة في الركن اليماني كما يعتقد فضيلة الحجر الأسود ، فقد ورد في مسند الإمام أحمد عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا ) ، ومع ذلك لا يرى المسلم مشروعية تقبيل الركن اليماني ، وإن كان يفعله بعض جهال المسلمين.

ومن المناسب أن نقول : إن من يعبد شيئا فلا شك أنه يرى في معبوده أنه أعلى منه وأفضل منه ؛ لأن العابد لا يعبد من يرى أنه مثله أو أدنى منه منزلة وقدرا ، ونحن نعلم أن حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة ، بل أعظم من حرمة الدنيا بأسرها ، كما جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن عدا أبي داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ) ، وجاء عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال في الكعبة : " ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك ) ، فما سبق يبين لنا نظرة الشرع للمسلم في كونه أعظم حرمة من الكعبة بما فيها الحجر الأسود ، فكيف يصح أن يقال إن المسلمين يعبدون هذا الحجر ؟!!.

ولنقف قليلا لنتدبر ، ألم يكن العرب في جاهليتهم يتخذون العديد من الآلهة من مختلف الأشياء ، وهم مع ذلك لم يتخذوا الحجر الأسود إلها من دون الله ، ولكنهم جعلوا له حرمة ومكانة باعتباره من البقايا الموروثة للكعبة التي بناها إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام ، فإذا كان هذا حال العرب في جاهليتهم بمثل هذا الوضوح ، فأين عقول المستشرقين عندما نسبوا ذلك إلى المسلمين ؟! .

وفيما تقدم كفاية لبيان ضحالة مثل هذه الأفكار ، والله الموفق .

مواد ذات صلة