وَذَرِ الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً

0 870

شاهد بعض ملوك فارس اجتماعا لبعض المتصوفة، وقد أحضر فيه من الصور الجميلة والأصوات المطربة ما أحضر، فقال الملك لشيخهم: يا شيخ! إن كان هذا هو طريق الجنة؛ فأين طريق النار؟[ الكلام على مسألة السماع، ص 342.]


لقد عكف فئام من المتصوفة على سماع الـمكاء والتصدية، والمصاحب بالدف والشبابة والمزمار وضرب الأوتار، وإنما حدث هذا السماع بعد القرون المفضلة؛ فلما تأخر الزمان وفترت العزائم عن السماع المشروع مما أنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ استعاضوا عنه بالسماع المحدث من العقائد والأشعار، والنظر إلى الصور المحرمة، وتمادوا في ذلك، حتى آل أمرهم إلى إنشاد قصائد الحلول والاتحاد ونحوها من البدع المكفرة[الاستقامة: 1/304].


ومما استجد في هذا العصر ما يسمى بالأغاني الدينية عند أهل الطرب والمجون؛ فبينما المغني (يتكسر) بلهوه، ويترنم بمجونه على المسارح؛ إذا هو بعينه ينشد (التواشيح الدينية)، ويتواجد في الزوايا والموالد، وبآلات العزف ولحون الغناء نفسها!


وأضحت (الموالد) و (المشاهد) أوكارا للسماع المحدث وغناء المجون، واختلاط النساء بالرجال ومقارفة الفواحش.. ومن ذلك: ما سطره المؤرخ الجبرتي في شأن مشهد عبد الوهاب العفيفي (ت 1172هـ) وما يحصل عنده من طرب وفحش فقال: (ثم إنهم ابتدعوا له موسما وعيدا في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وأرباب الملاهي والبغايا... ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلا ونهارا..)[ تاريخ الجبرتي: 1/304؛ باختصار].
ومثال آخر: مشهد الإنبابي بمصر؛ فقد ذكر المؤرخون أن فيه من الفساد ما لا يوصف، حتى إن الناس وجدوا حول هذا المشهد أكثر من ألف جرة خمر فارغة، وأما ما حكي عن الزنى واللواط فكثير لا يحصى[انظر: السيد البدوي، لأحمد منصور، 323.].


ومن أواخر هذه البلايا ما حصل في مولد أحمد البدوي بطنطا مصر آخر عام 1428هـ الذي مضى قريبا، من الشرك الصراح، والزعيق والصراخ، ورقص الرجال مع النساء مصحوبا بالمعازف والاختلاط (والاحتضان)[ انظر: مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السادس.]!


ورحم الله الشيخ عبد الرحمن الوكيل القائل: (وسل الآمين تلك الموالد عن عربدة الشيطان في باحاتها، وعن الإثم المهتوك في حاناتها، وعن حمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليلاتها، فما ينقضي في مصر أسبوع إلا وتحشد الصوفية أساطير شركها، وعباد أوثانها عند مقبرة يسبحون بحمد جيفتها، ويحتسون آثام الخمر (والحشيش)، والأجساد التي طرحها الإثم على الإثم فجورا ومعصية..)[ هذه هي الصوفية، 160 ـ 161].


لقد أنكر العلماء السابقون ما وقع عند المتصوفة في عصرهم من الرقص واللهو، والتقرب إلى الله بذلك؛ فقد سئل الحلواني من علماء الحنفية عمن سموا أنفسهم الصوفية، واختصوا بنوع لبسة، واشتغلوا باللهو والرقص وادعوا لأنفسهم المنزلة. فقال: أفتروا على الله، أم بهم جنة؟!


وقال القرطبي في كتابه (المفهم): (وأما ما ابتدعته الصوفية في ذلك؛ فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة، وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة، وقول أهل المخرقة، والله المستعان).
فكيف لو أدرك أولئك العلماء صوفية هذا العصر، والمولعين بما هو أشنع وأقبح من أنواع المجون والفحش؟!


ومع هذا التهتك والتفلت عن تحكيم الشرع واتباع السنة، إلا أن أولئك الصوفية أصحاب أمان جامحة ودعاوى عريضة؛ فهم ـ كما يرون أنفسهم ـ أهل الذوق والوجد، وأرباب الصفا والحب، لكن هذه الدعاوى سرعان ما تتساقط وتزول عند أدنــى ابــتلاء أو امتحان، (غاية الدعوى مع غاية العجز)، فأين الذوق وحب الله ـ تعالى ـ عند قوم نقضوا أعظم أسباب ذلك من الاتباع والجهاد في سبيل الله؟!


والتنصل عن الصراط المستقيم، والانحلال من ربقة الاتباع هو ما تمليه النفوس الجاهلة والتي تركن إلى أهوائها، وتستروح ملذاتها، وتأنف من التسليم والانقياد لأحكام الدين (وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قــال أبو عثمان النيسابوري ـ رحمه الله ـ: ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه)[ اقتضاء الصراط المستقيم: 2/612].


وقال ابن عقيل: (لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم)[ تلبيس إبليس، ص 450].


إن التصوف ـ بشهادة بعض المعجبين به ـ تفرد بالتجويد في الموسيقى والغناء، فكانت مجالس الذكر الصوفي مدارس لتخريج المغنين؛ إذ إن الذكر عندهم يكون وفق أنغام محددة، وآلات موسيقية[التصوف الإسلامي، لزكي مبارك، ص 198، 199]!


وسماع الصوفية بأصواته ولحونه له تأثيره على تلك النفــوس؛ فهو يؤجــج المشــاعر ويحــرك الوجــدان، لكــن بلا علم ولا كتاب منير (ومعلوم أن النفوس فيها الشهوات كامنة، ولكنها مقهورة مقيدة بقيود الأوامر، فإذا صادفها السماع أحياها وأطلقها من قيودها، وافتكها من أسرها، وهــذا أمر لا ينكره إلا أحد رجلين: إما غليظ كثيف الحجاب، وإما مكابر؛ فمضرة هذا السماع على النفوس أعظم من مضرة حميا الكؤوس)[ الكلام على مسألة السماع، ص 333].

وهذا السماع وما يتفرع عنه من إنشاد متهتك، وصراخ وتواجد، وتواشيح مبتدعة؛ لا ينفك عن تشهي النساء وأشباههن، بل يتجاوزه إلى الاختلاط والعشق والعناق...


والمتأمل في العبادات الشرعية كالصلاة والصيام والاعتكاف والحج، يلحظ أن شأن هذه الشهوات ينافي تلك العبادات؛ ففي الصلاة منعت المرأة أن تؤم الرجال، وأن تقف في صفهم، بل تتأخر عن صفوف الرجال، وجعل مرورها بين يدي المصلي قاطعا لصلاته. ومنع المحرم في الحج من النكاح والمباشرة والأسباب الداعية إلى ذلك. وكذلك الاعتكاف نهي فيه عن مباشرة زوجه، وكذا الصيام؛ كل هذا لتخلو العبادات من التعلق بالنساء وصورهن، ويصير تعلق القلب كله بالله وحده[انظر: الاستقامة: 1/314].


كما أن السماع المحدث دائر بين الكفر والفسوق والعصيان، بل اشتمل على أكثر ما حرمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الله ـ تعالى ـ قال: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الـحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: ٣٣].


فاشتمل هذا السماع على هذه الأمور التي هي قواعد المحرمات؛ فإن فيه الفواحش الظاهرة والباطنة والإعانة على أسبابها، والإثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله، والقول على الله بلا علم ما الله به عليم؛ فإنه تنوع، وتفرق أهله فيه، لكل قوم ذوق ومشرب يفارقون به غيرهم، حتى في الأشعار والحركات والأذواق، فوقع فيه الاضطراب والاختلاف، وصار أهله من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون[انظر: الاستقامة: 1/310، والسماع، ص 337].
ــــــــــــــــــ
د.عبدالعزيز آل عبداللطيف

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة