- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:دراسات قرآنية
من قضايا الاعتقاد الأساسية، أن الله سبحانه لم يخلق هذا الكون عبثا، وإنما خلقه وأقامه على سنن تدبر أمره، وتسير شأنه، ومفتاح ذلك قوله سبحانه: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} (الفرقان:2).
ويزخر القرآن الكريم بتأصيلات فائقة في موضوع السنن، فهو دائما يوجه الأنظار والأفكار إلى استنطاق التاريخ، واستقراء الحوادث والأسباب التي خفضت أقواما، ورفعت آخرين.
ومفهوم (السننية) مستفاد من العديد من الآيات الدالة على أن الحياة الإنسانية مرتبطة بنواميس وقوانين، من عمل بأسبابها، وأخذ بشروطها، استقامت له الحياة، ومن لم يعمل بتلك الأسباب، ولم يأخذ بشروطها، اختل نظام الحياة.
فمن خلال سنن الله التي بثها في كتابه، نعي العوامل التي تجعل المجتمع سليما معافا، وتحفظه من الفساد الاجتماعي، والانحلال الأخلاقي.
إذن، (السننية) كمفهوم قرآني يقصد به، أن حياة الأمم وسعادتها في الدارين مرتبطة بمدى تقيد هذه الأمم بقوانين الحياة، المتعلقة بمفاهيم الاستخلاف والتسخير والعبودية.
ومن الآيات المقررة لمفهوم (السننية) قوله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن} (آل عمران:137)، وقوله سبحانه: {سنة الله التي قد خلت في عباده} (غافر:85)، وقوله عز من قائل: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} (الفتح:23). وغير ذلك من الآيات، التي تفيد أنه سبحانه أقام حياة الإنسان على سنن (قوانين) دقيقة، لا تحابي أحدا، فردا كان أم مجتمعا.
وعلى الرغم من أن موضوع (السننية) في القرآن الكريم -فيما نحسب- من أهم القضايا الجديرة بالبحث، إلا أنه لم يلق من المفسرين المتقدمين العناية اللائقة به. أما المفسرون المعاصرون، فإن الشيخ محمد رضا -فيما وقفنا عليه- هو أول من نبه على هذا الموضوع في تفسيره "المنار"، حيث ذكر عند تفسيره لقوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} ما حاصله: أن إنعام الله على الأقوام والأمم منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الأخلاق والأعمال متمكنة منهم، كانت تلك النعم ثابتة ومستقرة، ولم يكن لينـزعها منهم انتزاعا بغير ظلم أو ذنب، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك الأخلاق والأعمال، غير الله ما بأنفسهم، وأخذ منهم ما أنعم به عليهم.
ثم إن سيد قطب رحمه الله تابع الشيخ رشيد رضا في التنبيه على مفهوم (السننية) في القرآن، وبنى على أساس هذا المفهوم تفسير العديد من الآيات، ومما قاله في هذا الصدد: "والقرآن الكريم يرد المسلمين إلى سنن الله في الأرض. يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور. فهم ليسوا بدعا في الحياة; فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافا، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام. واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق. ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين; بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول".
أما ابن عاشور فقد أشار إلى هذا الموضوع إشارة عابرة، ولم يتوسع في بيانه وأمثلته القرآنية، ومما ذكره في هذا الشأن ما جاء عند تفسيره لقوله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن}، قال: "في الآية دلالة على أهمية علم التاريخ؛ لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها".
والمتتبع لمفهوم (السننية) في القرآن، يجد أنها على أنواع أربعة:
فهناك السنن الكونية، وهي سنن تتعلق بنظام الكون وتركيبه، كقوله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس:37)، فتعاقب الليل والنهار آية كونية ثابتة لا تحيد، أقام الله عليها هذا الكون. وقوله سبحانه: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} (الأعراف:57). وسقوط الإمطار نتيجة تراكب وتراكم عدة عوامل آية كونية من الآيات التي أقام الله عليها نظام هذا الكون.
والسنن الكونية يطلق عليها في القرآن عادة (آيات)، كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت:53). وأهم سمة لهذه السنن (الآيات)، أنها تمثل قانونا ثابتا، يمثل قوانين الحياة الأساسية التي وجدت لخدمة الإنسان.
وهناك (السنن الكلية)، وهي السنن التي جعلها الله تعالى مفتاحا لقيام الحضارات بمفهومها الشامل، من ذلك قوله سبحانه: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (الأعراف:96). فهذه الآية تقرر أن قيام الحضارات الحقيقي إنما يكون أولا وقبل كل شيء على أساس الإيمان والتقوى، فإذا فقد هذا الأساس فلا حضارة البتة، وإذا رأينا شيئا يطلق عليه الناس حضارة، ويقوم على غير هذا الأساس، فهو عند التحقيق والتدقيق حضارة زائفة خادعة، لا رصيد لها من المصداقية، ولا تملك مقومات البقاء والاستمرار.
ثم هناك (السنن الجزئية)، وهي السنن التي تخدم كل من احترمها ووظفها كما هي، وهي سنن حيادية عامة، يستفيد منها كل من يسخرها، بغض النظر عن عقيدته ولونه وعرقه. وهذا النوع من السنن يرشد إليه قوله سبحانه: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا} (الإسراء:20)، فالكون فضاء مفتوح أمام الجميع، ومسخر لكل أحد، لا فرق بين مؤمن وكافر، فمن سخره وفق قوانين التسخير حصل خيره ودفع عنه شره، ومن قعد عن ذلك وتوانى، فقد فاته خير كثير، وأصابه ضر كبير.
والأمر الذي ينبغي التنبيه إليه بهذا الصدد، أنه لا غنى للسنن الكلية عن السنن الجزئية، ولا للسنن الجزئية عن الكلية؛ فالحضارة التي تؤمن بالله، لكنها لا تكتشف سنن الكون والحياة، هي حضارة عاطلة خاملة. وأيضا، فإن الحضارة المكتشفة والمسخرة للسنن الجزئية، لكنها غير مهتدية بهدي السماء، هي حضارة تائهة خاطئة.
وهناك (السنن الاجتماعية)، وهي بيت القصيد، والمقصود من هذا المفهوم عند الإطلاق. وهي سنن تتعلق بالإنسان ووظيفته في هذه الحياة. وهذه السنن لها قانونية مختلفة نسبيا عن السنن الكونية؛ فهي تتسم بالثبات من جانب، {فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} (فاطر:43)، لكنها من جانب آخر تخضع لمقتضيات الحكمة الإلهية، التي تحدد الزمان والمكان والتفاصيل التي سوف تتبدى بها هذه القانونية. وقد نبه القرآن الكريم إلى أن حركة أي مجتمع محكومة بتلك السنن، من ذلك قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد:11) فسنة (التغير) سنة اجتماعية، تبين أن استقرار كل مجتمع منوط - قبل كل شيء - بسلوك أفراده، واستقامتهم على شرع الله، وأخذهم بشروط التمكين في الأرض.
ومما ينبغي ملاحظته بخصوص (السنن الاجتماعية)، أن هذه السنن ليست خاضعة لمبدأ السببية المادي، الذي يرتب النتائج على مقدماتها ترتيبيا حتميا لا انفكاك له، بل هي سنن يحكمها جانبان: الأول: رباني، يتمثل بمراد الله سبحانه، وهذا الجانب يرشد إليه قوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} (الإنسان:30). وثانيهما: إنساني، يتمثل بشكل أساس بالإنسان، كفاعل رئيس في هذه الحياة، مطلوب منه أن يعمل ويجد ويكد في مجالات الحياة كافة. وهذا الجانب يرشد إليه قوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة:105). فالإنسان عليه أن يعمل وفق سنن الله، وتبقى نتائج عمله مرتبطة بإرادته سبحانه وحكمته.
إن (السننية) بحسب المفهوم القرآني، لا يتحقق معناها إلا إذا فهمت على ضوء العلاقة الإيمانية التي تربط الإنسان بخالقه، وهي بهذا المعنى تعني: أن نتائج الفعل الإنساني ليست متعلقة بأسبابها فحسب، وليست منفصلة ومستقلة عن مقتضى الحكمة الإلهية في التدبير، بل هي حاصلة وفق مقتضاها.
ومن الأمثلة على السننية الاجتماعية في القرآن غير ما تقدم، سنة (التمكين)، المصرح بها في قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} (النور:55)، فقد صرحت الآية الكريمة، أن التمكين في الأرض والاستخلاف فيها منوط بالإيمان والعمل الصالح، فإذا تحقق الإيمان الصحيح والعمل الصالح، تحقق للمؤمنين التمكين والاستخلاف والأمن، وإذا تخلف هذان الشرطان أو أحدهما انعدم التمكين والاستخلاف والأمن.
ومن الأمثلة على (السننية الاجتماعية) أيضا، قوله سبحانه: {إن تنصروا الله ينصركم} (محمد:7)، فقد بينت الآية الكريمة أن النصر على المستويات كافة، الحضارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، إنما يكون بنصر الله أولا، ونصر الله يعني: العمل على وفق ما أمر وشرع، فإذا تحقق هذا الشرط كان النصر، وإلا كانت الهزيمة والخذلان.
ومن (السنن الاجتماعية) غير ما تقدم، قوله سبحانه: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} (النحل:97)، وقوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} (غافر:60)، وقوله عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (الزلزلة:7). والآيات الجارية بحسب هذا النسق كثيرة لمن تتبعها.
وجدير بالتأمل في هذا السياق، أن الأمثلة التي أتينا عليها وما شاكلها ركزت على جانب الفعل الإيجابي، وما يترتب عليه من نتيجة إيجابية؛ لكن ثمة آيات ركزت على الفعل السلبي وما يترتب عليه من نتيجة سلبية، من ذلك مثلا، قوله سبحانه في سياق الحث على الجهاد في سبيل الله: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم} (التوبة:39)، فقد صرحت الآية أن العذاب إنما ينـزل بالناس، إن هم قعدوا عن الجهاد، واستكانوا إلى حياة الراحة والدعة.
ومن هذا القبيل كذلك، قوله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} (محمد:38)، فقد أوضحت الآية أن التولي عن منهج الله والإعراض عنه، يستدعي هلاك الناس بأي شكل من أشكال الهلاك، والإتيان بقوم آخرين، يطبقون منهج الله وفق ما شرع.
ونحو هذا يقال في قوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} (الجن:16)، فالاستقامة على وفق شرع الله شرط أساس لإنزال بركات السماء والأرض.
والذي نحب التأكيد عليه على ضوء ما تقدم، أن مفهوم (السننية) في القرآن يقصد به أساسا ما أسميناه بـ (السننية الاجتماعية)، وهو مفهوم يتوجه بشكل مباشر إلى الإنسان، بوصفه مكلفا بأوامر ونواه توجه حركته في هذه الحياة، وتضبط اتجاه، وفق حكمته سبحانه وتدبيره. فكل سنة اجتماعية لا تتم إلا من خلال شروط ينبغي توافرها، وموانع ينبغي انتفاؤها، وهذه الحقيقة ينبغي أن تكون ماثلة في أذهاننا، إذا أردنا النهوض واستئناف المسيرة.