لأتصدقنّ بصدقة

9 3141

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( قال رجل : لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون : تصدق على سارق، فقال : اللهم لك الحمد !، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية، فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على زانية، فقال : اللهم لك الحمد على زانية !، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي غني، فأصبحوا يتحدثون : تصدق على غني، فقال : اللهم لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غني !، فأتي فقيل له : أما صدقتك على سارق، فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية، فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني، فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله ) متفق عليه .

معاني المفردات

يستعف عن سرقته: يمتنع عن سرقة الناس.

تفاصيل القصة

النية والصدقة، كلمتان تربطهما علاقة وطيدة، وصلة أكيدة، تجعل من الأولى ( النية ) سببا في قبول الثانية ( الصدقة ) عند الله تعالى، حتى لو لم تقع في مكانها الصحيح .

ومسألة الخوف من عدم وصول المال إلى مستحقيه كانت ولا تزال قضية تؤرق الكثيرين من المحسنين وأصحاب الأيادي البيضاء، وتشكل هاجسا لديهم، إلا أن الحديث الذي بين يدينا جاء مطمئنا ومبشرا، أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عمله وأخلص نيته، ومؤكدا في الوقت ذاته أن المقصود الأعظم هو البذل والإنفاق بقطع النظر عن وصول الصدقة إلى أهلها .

وقد اشتمل الحديث الشريف على قصة تدور أحداثها في غابر الزمان، وبطلها رجل من الصالحين، حرص على معاني الجود والعطاء بعيدا عن أعين الناس وكلامهم، وزهد في مدحهم وثنائهم، وقصد بنفقاته وإحسانه رضا الخالق وحده .

وفي ليلة من الليالي، كان يحضر نفسه للمشاركة في مضمار من مضامير الخير، فقد عزم على أن يتصدق بصدقة لا يعلم عنها إلا علام الغيوب، فخرج مستترا بظلام الليل، وعلى حين غفلة من الناس، يبحث عن محتاج أعوزه الفقر إلى المال، ومنعه الحياء من السؤال، فوجد في طريقه فقيرا تبدو على محياه معاني البؤس، وفي هيئته دلائل الحاجة، فسارع إلى دفع المال إليه ثم استدار مبتعدا عنه، حفاظا على مشاعره وأحاسيسه .

وأصبح الرجل الصالح راضيا بما قام به في الليلة السابقة، يرى بعين الخيال فرحة الفقير بالمال وهو بين أهله، وبينما هو غارق في أفكاره إذا بالأخبار تصله أن رجلا قد تصدق على سارق البارحة، فعلم أنه المقصود بذلك، فراودته مشاعر مختلطة من خيبة  الأمل والحسرة على عدم تحقق مراده وضياع صدقته، إلا أنه حمد الله على كل حال فقال : ( اللهم لك الحمد على سارق ) .

وعندما جاء الليل قرر أن يصحح خطأه، ويضع الصدقة في موضعها، فخرج من بيته، واجتهد في البحث عن محتاج، فأبصر امرأة تقف في قارعة الطريق، وتوسم فيها الحاجة، فدفع إليها صرة المال ثم انصرف .

وجاء اليوم التالي يحمل الخبر الذي أزعجه، فقد وقعت صدقته في يد امرأة من بائعات للهوى وباذلات الشرف، فازداد الرجل غما بغم، وقال والألم يعصر فؤاده : "الحمد لله على زانية ".

وللمرة الثالثة، يتكرر المشهد، ويتصدق الرجل ولكن هذه المرة على غني، ليصبح والناس يتندرون بفعله، عندها سلم الرجل أمره لله، ورضي بقضائه وقدره، وحمد من لا يحمد على مكروه سواه .

ولعل الرجل لم ير أعماله إلا في صورة الهباء الذي تذروه الرياح، ولكن رحمة الله واسعة وفضله أكبر، فجاءته الرؤيا تحيي موقفه وتشيد بإخلاصه، وتبشره بقبول صدقاته الثلاثة، رؤيا لا تقف عند الأبعاد المألوفة لمواقف الحياة وسننها، ولكنها تكشف عن البعد المخبوء للحكمة الإلهية : ( أما صدقتك على سارق، فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية، فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني، فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله ) .

وقفات مع القصة

الحديث غني بالمعاني والدلائل التي تجدر الإشارة إليها، وأول محطاتنا هي بيان الارتباط الوثيق بين العمل والنية، وأن قبول الأعمال عند الله يكون على قدر ما تحقق فيها من التجرد والإخلاص، وقد أكد النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك بقوله : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) متفق عليه .

ولنا أن نستوحي مما سبق أنه ليس من المهم أن تقع الصدقة في موضعها الصحيح، إنما المهم هو حسن القصد وتصحيح النية، ولا يعني ذلك بالطبع الامتناع عن التحري في حال السائلين، وكشف الصادق من الكاذب، ولكن المذموم هو المبالغة في ذلك والتكلف فيه .

ومن الآثار الحميدة للإخلاص – والتي أشار إليها الحديث بشكل عابر -، أن صاحبها قد ينتفع بأعمال أناس لم يكن له توجيه مباشر إلى الخير، بل كان مجرد سبب ساقه الله إليهم، فتغيرت أحوالهم به، فالسارق والزانية والغني – كما في القصة -، قد ينصلح حالهم وتحسن فعالهم، فينال المتصدق بسببهم أجرا عظيما .

كما جاء ذكر الرؤيا في سياق القصة، وتطلق على ما يراه النائم، وتكون حقا من عند الله تعالى بما تحمله من بشارة أو نذارة، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الرؤيا الصادقة من الله ) رواه البخاري .

وفي الحديث دلالة على فضل التسليم بالقضاء والقدر، وحمد الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال : في المنشط والمكره، والعسر واليسر، اقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – الذي كان يكثر من الثناء على الله والتمجيد له، مهما نزلت به من صروف الحياة وابتلاءاتها .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة