الحرب والسلام عند رسول الإسلام

1 1698

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى للإنسانية الكاملة، وكانت شخصيته الخلقية شخصية كاملة سامية متعددة النواحي، وقد اجتمع فيه من محاسن الآداب ومكارم الأخلاق ما لم يجتمع لغيره من الناس؛ سواء في شبابه أو في رجولته؛ وسواء قبل بعثته أو بعدها، وقد أجمع المتقدمون والمتأخرون من الرواة والمؤرخين في الشرق والغرب على أنه عرف في صباه وشبابه بالصدق والأمانة، والتمسك بالفضائل، والترفع عن الرذائل حتى عرف بين قومه بالأمين، وقد أعده الله تعالى للنهوض بأعباء الرسالة ونشر الدين الحنيف بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -مبينا الغرض الأساسي من بعثته النبوية السامية-: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[ رواه أحمد]، ومكارم الأخلاق هذه هي الأساس في حفظ حقوق الآخرين، وعدم الاعتداء، وسلامة المجتمع، ومن ثم التقليل من الخسائر بما يضمن للآخرين التعايش بالصورة الإنسانية الصحيحة.


وكانت سيرته صلى الله عليه وسلم تؤكد أن كل من هادنه لم يقاتله؛ سواء أكان من مشركي العرب أم من غيرهم، والمتتبع لأحكام السنة النبوية ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحروب وسيرته العطرة يري أن الخلق العظيم هو جوهر رسالته.


فقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخلاق في سلمه وحربه إلى أن لقي ربه، فهو الصادق إذا ذكر الصدق، وهو الوفي الكريم، الزاهد، الشجاع، المتواضع، الرحيم، البار، الحكيم، الأمين، الوفي، العابد، كان الرسول صلى الله عليه وسلم هذا كله، وكان فوق هذا، فكانت أخلاقه فوق الصعاب، وفوق كل الظروف والتقلبات التي تأتي بها الأيام، فقد كان قادرا على أن يلتزم الموقف الأخلاقي المناسب، مهما تكن اللحظة التاريخية حرجة وحاسمة، إنه نبي يشرع بسلوكه، وينطلق من منهج واضح وليس من رد فعل تمليه أو تفرضه أية ضغوط أو ظروف.


ولقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت: "كان خلقه القرآن"[أحمد والنسائي]، وسئلت مرة أخري فقالت: لم يكن فاحشا ولا متفحشا.. ولكنه يعفو ويصفح، وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما". 


هذا ما جبله الله عليه من الأخلاق الجبلية الأصيلة العظيمة التي لم يكن أحد من البشر- ولا يكون- على أجمل منها، وشرع له الدين العظيم الذي لم يشرعه لأحد قبله، وهو مع ذلك خاتم النبيين، فلا رسول بعده ولا نبي؛ صلى الله عليه وسلم، فكان فيه من الحياء والكرم والشجاعة والحلم والصفح والرحمة وسائر الأخلاق الكاملة ما لا يحد ولا يمكن وصفه[ ابن كثير: شمائل الرسول.].


وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين، والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل، وسائر المعمورة أحوج ما يكون إلى هديه ورسالته؛ فاستطاع محمد صلى الله عليه وسلم بأخلاقه السمحة أن يحول الهمجية إلى شجاعة، والطغيان إلى رحمة وعدل، متبعا في ذلك ما يوحى إليه من لدن عليم خبير؛ فصار الشر خيرا، وتبدل الظلام إلى نور وهاج يضئ القلب والبصيرة.


وكانت مهمته صلى الله عليه وسلم هي القضاء على النظام القبلي القوي الذي كان مسئولا عن اندلاع نار الحرب -على نحو موصول تقريبا- بين العرب، والاستعاضة عنه بولاء لله يسمو على جميع الروابط الأسرية والأحقاد الصغيرة. وكان عليه صلى الله عليه وسلم أن يعطي الناس قانونا كليا يستطيع حتى العرب المتمردون قبوله والإذعان له، وكان عليه أن يفرض الانضباط على مجتمع عاش على العنف القبلي والثأر الدموي لضروب من المظالم بعضها واقعي وبعضها متوهم، فكان عليه أن يحل الإنسانية محل الوحشية، والنظام محل الفوضى، والعدالة محلة القوة الخالصة[ روم لاندو: الإسلام والعرب]. ويعبر عن ذلك الوضع قول أحمد شوقي:

والأرض مملوءة جورا مسخرة
لكل طاغية في الخلق محتكم
مسيطر الفرس يبغي في رعيته
وقيصر الروم من كبر أصم عم
يعذبان عباد الله في شبه
ويذبحان كما ضحيت بالغنم
والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم
كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم
وفي الحرب ضرب الرسول الكريم أروع المثل على الرحمة والعدل والتفضل ومراعاة أعلى آدابها الإنسانية؛ ففي قتاله لا يغدر ولا يفسد ولا يقتل امرأة أو شيخا أو طفلا، ولا يتبع مدبرا، ولا يجهز على جريح، ولا يمثل بقتيل، ولا يسيء إلى أسير، ولا يلطم وجها، ولا يتعرض لمسالم.

فمن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا والجيوش:

فعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل وبمن معه من المسلمين خيرا ثم قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا)[ أخرجه مسلم].

ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)[ البخاري ومسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)[سنن البيهقي]. وقال أيضا: (لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا ولا تقتلوا أصحاب الصوامع)[مسند أحمد].

وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات (غزوة حنين) امرأة مقتولة فغضب وقال: (ما كانت هذه تقاتل)[رواه أحمد].


ولا شك في أن النهي عن قتل الضعفاء، أو الذين لم يشاركوا في القتال، كالرهبان، والنساء، والشيوخ، والأطفال، أو الذين أجبروا على القتال، كالفلاحين، والأجراء (العمال) شيء تفرد به الإسلام في تاريخ الحروب في العالم، فما عهد قبل الإسلام ولا بعده حتى اليوم مثل هذا التشريع الفريد المليء بالرحمة والإنسانية، فلقد كان من المعهود والمسلم به عند جميع الشعوب أن الحروب تبيح للأمة المحاربة قتل جميع فئات الشعب من أعدائها المحاربين بلا استثناء[ مصطفى السباعي: السيرة النبوية، دروس وعبر]


فحياة الإنسان لدى النبي الكريم مصونة لا يجوز التعرض لها بالترويع أو الضرب أو السجن أو الجلد أو المثلة والتشويه. فعلى أساس احترام النفس الإنسانية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه[ محمد شديد: الجهاد في الإسلام]

والرسول صلى الله عليه وسلم يوفي بالعهود والوعود التي يقطعها على نفسه، ويشدد على نفسه إلى أقصى مدى حقنا للدماء.

وما أروع قول الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "والله لا تدعوني قريش إلى خطة توصل بها الأرحام، وتعظم فيها الحرمات إلا أعطيتهم إياها"[البخاري]


وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يلوح باستعمال القوة من أجل ردع أعدائه حتى يعيدوا حساباتهم، ويسعى قدر الإمكان إلى تجنب الحرب وويلاتها. وكتب السيرة تروي لنا أن المسلمين عندما وصلوا إلى تبوك، وعلموا أن الروم قد انسحبوا منها إلى داخل بلادهم. حينئذ آثر الرسول صلى الله عليه وسلم الانسحاب وكان بإمكانه تعقب ومطاردة قوات الروم المنسحبة، وإيقاع الخسائر الفادحة في صفوفها، وما أيسر القتال مع عدو منسحب. 


أما الأسرى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بشئونهم بنفسه، ويتعهدهم ويرفق بهم، فكانت رحمته أسبق من غضبه، وحلمه وعفوه ورفقه أسبق من انتقامه؛ ذكر ابن كثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء)[ تفسير ابن كثير 4/454]، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إلحاق الأذى بهم وحث على الرفق بالأسرى فقال: (استوصوا بالأسارى خيرا)[ رواه الطبراني في الصغير].


هذه الوصايا في (آداب الحرب) أسمى وأكمل وأبر وأرحم من كل ما يحتوي عليه تشريع البشر، ولا يدانيها ما وصلت إليه قواعد القانون الدولي الحديث عامة والقانون الدولي الإنساني خاصة، هذه هي مناهج إمام الأخلاق الأول، وكلها جاءت محمدا صلى الله عليه وسلم تسعى فكان أكمل الناس خلقا، وأزكاهم عملا، وأطهرهم نفسا، وأعطرهم سيرة.  

وأجمل منك لم تر قط عيني
وأكمل منك لم تلد النساء
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنور محمود زناتي – كلية التربية – جامعة عين شمس

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة