رمضــان.. دعـــائم للتغيير

0 685

بحلول شهر رمضان المبارك تهتز مشاعر المسلمين في الأرض قاطبة، وتتعلق أنظارهم بالسماء، مؤملين دنو حالة الإنقاذ، فتتشخص أمامهم الغايات واضحة، وتعنو الصعاب، وهكذا يتجلى للعيان أن العالم الإسلامي بالرغم من أزماته المحبطة لا يزال يحتفظ بوحدته الروحية كأكبر عامل جامع وموجه نحو إطلاق طاقاته المكبلة.

ولما كانت مسألة تغيير الفرد لا تتحقق إلا بتوجيهه لغاية جلية وقريبة في شعوره حتى يسير وراءها كان رمضان أبلغ العبادات في رياضة النفس وتقويمها، لأنه يقوم ببناء الدوافع التي تمنح الصائم القوة على الامتناع عن رغبات معينة وترك الشهوات المعروفة، والدوافع هنا ليست إلا تلبية أمر الله، والنزول عند إرادته لنيل مرضاته.

إنه جهاد نفسي متواصل لمدة شهر كامل، يشعر الصائم في نهايته بقوة اتجاهه إلى الله وبعمق انتمائه لهذا الدين، فالانتصار المتكرر على الشهوات مران على قوة العزيمة، جاء في الحديث الصحيح (الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم).

الصيام جنة أي وقاية من الإسفاف كما فسره العلماء، فلا يتصور معه أن يتلبس الصائم بأحوال تنافي هذا المقصد، وفي نفس السياق يصب قوله صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وكذلك قوله (كم من صائم ليس من صيامه إلا الجوع والعطش).

إننا نجد أنفسنا أمام هذه الأحاديث مجبرين على التفكير الجدي في إحدى أكبر معضلات المجتمعات الإسلامية اليوم، وهي غياب الشعور بحقيقة الشهود الإلهي الدائم الذي كان من نتائجه الاهتمام بأعمال الجوارح والغفلة عن أعمال القلوب، في حين أن التربية الدينية تقوم في الإسلام على إنشاء وتنمية ملكة مراقبة الله والاستحياء منه، في توازن نفسي دقيق يجمع بين الخوف والرجاء، هما بمثابة الجناحين للطائر متى اختل أحدهما قعد عن الطيران والتحليق وكان مصيره الهلاك.

ولا شك أن الصوم يجعلنا نجتهد حتى نرتفع إلى مستوى الإحساس بالرقابة الإلهية، وهو بهذا الاعتبار هازم لمنطق المادة الجاف الذي تسلل إلى حياتنا الثقافية من معين الحضارة المعاصرة الآسن.

ولأن تكريم الصائم أمر أخروي (من صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، كان في المشاق التي تصاحب الصائم لأجل تحصيل هذا الأجر، دليل على أن جهة المصلحة التي ينبغي على المسلم اعتبارها إنما هي الجهة التي هي عماد الدين والدنيا لا من حيث أهواء النفوس كما بينها الشاطبي.

ومن ثم يمكننا تعريف سلوك الامتناع في شهر رمضان، بأنه سلوك جماعي موحد لمجتمع يمتلك المسوغ الحقيقي لوجوده، يستمده من قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56]

وفي ضوء هذه الآية الكريمة يمكننا أن نفهم معنى العبودية الحقة، التي تعني خضوع العبد ودخوله في ربقتها اختيارا كما هي في الواقع تشمله اضطرارا، بمعنى أن المسلم يعيش على ظهر هذه البسيطة، يتحرك لله وهو مستغرق في أنشطته كلها (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) [الأنعام: 162].

فالإسلام منهج حياة متكامل يجعل من المسلمين حراسا للمبادئ، يضبطون سلوكهم وفق ما شرعه الله تعالى من تكاليف، لا يقبلون الفوضى ولا يرتضون الضيم، يمتلكون حسا عاليا بالمسؤولية، ويسعون إلى اغتنام الأوقات لأجل صيانة أماناتهم.

فالقضية إذن ليست كما يحلو للبعض أن يصورها، خلاص فردي وعبادات صورية تقليدية، بل إنها تحتاج منا إلى تأمل وطول نظر، يقودنا حتما إلى فهم حرص الشارع على أداء المسلمين فروض الكفايات، وترغيبه في الصلوات الجامعة وزجره المفارق لجماعة المسلمين، بل غير المبالي بأمرهم (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) الحديث.
ذلك أن عامل الوحدة والتلاحم المنتج للإرادة الجماعية، يعد من أهم الركائز التي يقوم عليها بناء أي مجتمع متحضر.

والمجتمع الإسلامي النموذجي يمتلك أسمى المسوغات لوجوده بالإضافة إلى وحدة بنائه، الشيء الذي يكفل إطلاق طاقاته الاجتماعية وتجميع قواه وفق مصالح ومقاصد مشروعة.

ووجوه هذه المصالح مبثوثة في أبواب الشريعة وأدلتها، بالاستقراء القاطع، يعلم ذلك الفقهاء الأصوليون، وتدور كلها في فلك المحافظة على الضروريات الخمس:

حفظ النفس والدين والعقل والمال والنسل، لذلك فإن أصول الطاعات إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار هذه المقاصد الأصلية كما جاء في الموافقات، فهل هذا هو ما نسعى إليه في عباداتنا التي تحولت إلى عادات متوارثة، فاترة لا علاقة لها بحفظ نفس أو دين أو مال أو عرض، ولا تأمرنا بمعروف أو تنهانا عن منكر؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزيرة: كريمة بداوي

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة