- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:دراسات قرآنية
وردت في القرآن الكريم العديد من الآيات المتشابهة في اللفظ مع اختلاف فيها بتقديم وتأخير، أو تعريف وتنكير، أو إثبات لكلمة في آية وحذف لها في أخرى، أو تبديل لكلمة بأخرى، أو إثبات حرف في آية وحذفه من أخرى. وفيما يلي أمثلة على ذلك.
فمن أمثلة التقديم والتأخير، قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (النساء:135)، وقوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} (المائدة:8)، ففي الآية قدم الأمر بالقيام بالقسط على الشهادة، وفي الآية الثانية قدم الأمر بالقيام لله على الشهادة بالقسط.
ومما قيل في توجيه هذا التقديم والتأخير: إن الآية التي في سورة النساء وردت عقب آيات القضاء في الحقوق المبتدأة بقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (النساء:105)، ثم تعرضت لقضية بني أبيرق في قوله: {ولا تكن للخائنين خصيما} (النساء:105)، ثم أردفت بأحكام المعاملة بين الرجال والنساء، فكان الأهم فيها أمر العدل فالشهادة. فلذلك قدم فيها {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (النساء:135)؛ فالقسط فيها هو العدل في القضاء، ولذلك عدي إليه بالباء، إذ قال: {كونوا قوامين بالقسط} (النساء:135).
وأما الآية في سورة المائدة فهي واردة بعد التذكير بميثاق الله، قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به} (المائدة:7)، فكان المقام الأول للحض على القيام له سبحانه، أي: الوفاء له بما عاهدوا الله عليه، ولذلك عدي قوله: {قوامين} باللام. ولأن العهد شهادة أتبع قوله: {قوامين لله} بقوله: {شهداء بالقسط}، أي: شهداء بالعدل شهادة لا حيف فيها، وأولى شهادة بذلك شهادتهم لله تعالى. وقد حصل من مجموع الآيتين: وجوب القيام بالعدل، والشهادة به، ووجوب القيام لله، والشهادة له.
ومما قيل أيضا: إنه يلزم من كان قائما لله أن يكون شاهدا بالقسط، ومن كان قائما بالقسط أن يكون قائما لله، إلا أن آية النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدىء فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة؛ وآية المائدة جاءت في معرض ترك العداوات والأحقاد، فبدىء فيها بالقيام لله تعالى أولا؛ لأنه أردع للمؤمنين، ثم أتبع بالشهادة بالعدل. فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيه بما هو آكد وهو القسط، والتي في معرض العداوة والبغضاء بدىء فيها بالقيام لله، فناسب كل موضع بما جيء به.
ومن أمثلة التقديم والتأخير كذلك، قوله تعالى: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} (القصص:20)، وقوله سبحانه: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} (يس:20)، ففي آية القصص قدم الفاعل {رجل} على الجار والمجرور {من أقصى المدينة}، في حين أن الفاعل في آية (يس) جاء متأخرا على الجار والمجرور.
وقد قيل في توجيه ذلك: إن الفاعل في آية القصص جاء مقدما على الجار والمجرور - وهو الأصل -؛ لكونه نكرة تصف صاحبها بأنه قادم من أقصى المدينة، وموسى عليه السلام لا يعرف عنه شيئا إلا أنه قادم من مكان بعيد، ليعلمه ما كان يدبره له الكفار من مؤامرة.
أما الآية في سورة (يس) فقد جاءت تقريعا لأصحاب القرية الذين كفروا بالمرسلين، وكذبوهم، وتبكيتهم على استمرارهم في الكفر مع ما شاهدوه من الآيات المعجزات. ومن مظاهر توبيخهم وتقريعهم أن يأتي من أقصى المدينة، من ذلك المكان البعيد الذي لم يشهد المعجزات، ولم تتل فيه الآيات، أن يأتي هذا الرجل الذي لم يحضر جميع ما حضره الكفار، ولم يسمع مثل ما استمعوه، ولم ير من المعجزات ما رأوه، ومع ذلك يؤمن هو، وهم يكفرون، ويدعو هو إلى الإيمان، ويتنادون هم بالكفر؛ فنظرا إلى أهمية بعده عن موطن دعوته، قدم بيان مكانه على ذكره هو.
ومن أمثلة التعريف والتنكير، قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا} (البقرة:126)، وقوله سبحانه: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا} (إبراهيم:35)، فقد ورد لفظ {البلد} في آية البقرة نكرة مفعولا به، بينما جاء في آية إبراهيم معرفة مشارا إليه؛ وذلك لأن الدعوة الأولى وقعت قبل أن يكون البلد، فكأنه أشار إلى الوادي، ودعا أن يجعل بلدا آمنا؛ أما الدعوة الثانية فقد وقعت بعد أن جعل المكان بلدا، فعرف ما هو معروف موجود، ونكر ما كان من الأمكنة غير معروف.
ومن أمثلة الحذف والإثبات، قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} (البقرة:193)، وقوله سبحانه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (الأنفال:39)، فآية البقرة جاءت خالية من لفظ التوكيد (كل)، بينما أثبتت في آية الأنفال.
وقد قيل في توجيه ذلك: إن آية البقرة لم يأت فيها لفظ {كله}؛ لأن الآية واردة في مشركي مكة، فناسب حذف لفظ التوكيد؛ لعدم التعميم؛ بينما لما كانت آية الأنفال واردة في الكفار عموما، جاء فيها لفظ التوكيد؛ ليناسب العموم الذي وردت عليه الآية.
هذا، ولا يتوجه القول المذكور بخصوص آية البقرة إلا على قول من جعل الضمير في قوله سبحانه: {وقاتلوهم}، عائدا على أهل مكة، وهو أحد القولين الواردين في الآية.
ومن أمثلة إبدال كلمة بأخرى، قوله تعالى: {قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء} (آل عمران:40)، وقوله سبحانه: {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران:47)، فصيغة الفعل في الآية الأولى {يفعل} بينما هو في الآية الأخرى {يخلق}.
وقد وجهوا ذلك فقالوا: جاء بأعم الفعلين {يفعل ما يشاء} مع الإيجاد من أبوين؛ لأن يحيى عليه السلام جاء من أبوين، فناسبه أعم الفعلين {يفعل}، وجاء بأخص الفعلين {يخلق ما يشاء} مع الإيجاد الأخص؛ لأن عيسى عليه السلام جاء من أم بلا أب، فناسبه أخص الفعلين {يخلق}؛ إذ (الخلق) أخص (الفعل).
ومن أمثلة إثبات حرف في آية وحذفه من أخرى، قوله تعالى: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها} (الزمر:71)، وقوله سبحانه: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} (الزمر:73)، ففي الآية الأولى لم يقترن الفعل بالواو {فتحت}، في حين أن الفعل نفسه اقترن بالواو في الآية الثانية {وفتحت}.
وقد قيل في توجيه ذلك: إن أبواب جهنم كانت مغلقة ثم فتحت لما جاءها الذين كفروا، ويفيد أسلوب الشرط هذا المعنى؛ إذ الفعل المجرد من الواو {فتحت} جاء جوابا للشرط (إذا)؛ أما أبواب الجنة فقد كانت مفتوحة قبل مجيء الذي اتقوا ربهم إليها {مفتحة لهم الأبواب} (ص:50)، ولم يرد أسلوب الشرط هنا، وكأن المخاطب متوقع تمام الكلام.
ومن هذا القبيل أيضا، قوله سبحانه: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} (طه:15)، وقوله تعالى: {إن الساعة لآتية لا ريب فيها} (غافر:59)، فقد دخلت لام التوكيد على الفعل {آتية} في الآية الثانية دون الأولى.
وقد وجهوا ذلك بأنه: لما كان الخطاب في آية طه موجها لموسى عليه السلام لم يحتج الفعل للام التوكيد؛ لأن المخاطب لم يكن منكرا لمجيء الساعة، وبالتالي لم يحتج الأمر في حقه إلى توكيد ولا تأكيد؛ ولما كان الخطاب في آية غافر موجها لقوم ينكرون قيام الساعة، فاحتاج الأمر لهذه اللام؛ توكيدا وتأكيدا لمجيء الساعة.
والأمثلة من هذا الباب كثيرة في القرآن، وما أتينا عليه من توجيهات لهذه الأمثلة ليس هو القول الفصل فيها، إذ ليس ببعيد أن يكون ورائها أمور أخر غير ما تقدم، كأن يكون الأمر من باب التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة على عادة العرب الذين نزل القرآن على سننهم في الكلام. ولا يخفى أن القطع والجزم في توجيه مثل هذه الآيات لا سبيل إليه، وإنما مرده في النهاية لما يملكه المفسر من ثقافة تفسيرية.