الخبر والأمر في القرآن

1 1651

من المعروف لغة أن الجملة العربية إما أن تكون جملة خبرية تفيد الإخبار عن أمر ما، كقولك: الربيع جميل؛ وإما أن تكون جملة فعلية تدل على حدث ما، كقولك: تشرق الشمس كل يوم. والفرق بين الجملتين بوجه عام أن الجملة الخبرية تحمل صفة الثبات والاستقرار في الأمر الذي تخبر عنه، في حين أن الجملة الفعلية تفيد الحركة والاستمرار.

والناظر في القرآن الكريم لا يعجزه أن يجد استعمال كلا النوعيين من الجمل؛ فهو يستعمل الجملة الخبرية غالبا للإخبار عن حدث ما، كقوله تعالى: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق} (فصلت:15)، أو ليقرر حقيقة كونية كقوله سبحانه: {الشمس والقمر بحسبان} (الرحمن:5). وغالبا ما يستعمل الجملة الفعلية؛ لتقرير الأحكام الشرعية، كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} (البقرة:43).

بيد أن القرآن الكريم يعبر أحيانا عن الجملة الفعلية بالجملة الخبرية، ويعكس أحيانا أخر، فيعبر عن الجملة الخبرية بالجملة الفعلية؛ كل ذلك لفائدة يريد تقريرها، أو لتأكيد معنى يريد التنبيه عليه. نسعى في هذه السطور لتجلية كلا الأسلوبين مستعينين على ذلك بالأمثلة القرآنية وأقوال المفسرين. 

الخبر بمعنى الأمر 

وردت في القرآن الكريم العديد من الآيات بصيغة الإخبار، لكن عند التأمل بها نجد أن الإخبار ليس هو المقصود والمطلوب، وإنما طلب الفعل. وغالبا ما يستعمل الخبر بمعنى الأمر لفائدة يتغياها القرآن، كالتأكيد على الأمر والفعل، ونحو ذلك على ما نستبينه قريبا. يقول الرازي بهذا الصدد: "وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر...؛ للمبالغة في الإيجاب، فيجعل كأنه وجد، فهو يخبر عنه". ومن أمثلة هذا الأسلوب: 

قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} (البقرة:233)، فجملة {والوالدات يرضعن} جملة خبرية، لكن معناها الطلب. والمعنى: المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن يرضعن أولادهن. وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب. قال بعض المفسرين: "والتعبير عن الجملة الطلبية بصيغة الجملة الخبرية فيه إشارة إلى أن الإجابة أمر فطري طبيعي، وأنه كان الطلب وكانت الإجابة، فعبر بما هو دال على الإجابة". وقال السعدي: "هذا خبر بمعنى الأمر، تنزيلا له منزلة المتقرر، الذي لا يحتاج إلى أمر". 

وقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (البقرة:228)، جملة خبرية بمعنى الأمر، والمعنى أن على المطلقة أن تنتظر ثلاثة قروء قبل أن تتعرض للخطبة والزواج. والعدول عن الجملة الخبرية إلى الجملة الاسمية هنا؛ للتأكيد والإشعار بأنه مما يجب أن يصار إلى امتثاله، وكأن المخاطب قصد أن يمتثل الأمر، فيخبر عنه.

ومن هذا الباب قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} (النساء:34)، فالآية خرجت مخرج الخبر، ومعناها الأمر. قال ابن عاشور: "الكلام خبر مستعمل في الأمر، كشأن الكثير من الأخبار الشرعية". والمعنى: إن على الرجال واجب القيام بأمر النساء رعاية وإنفاقا. 

ومن هذا القبيل قوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} (آل عمران:97)، جملة خبرية، تخبر بأن من دخل البيت الحرام كان آمنا لا يصاب بأذى. وحمل فريق من العلماء الإخبار في الآية على معنى الأمر، فقالوا: إنه خبر مستعمل في معنى الأمر، بتأمين داخل المسجد الحرام من أن يصاب بأذى. وقد روي هذا عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. 

وقوله تعالى: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} (البقرة:114)، فالآية جملة خبرية، تخبر بأن المانعين لمساجد الله ما كان لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا حال كونهم متلبسين بالخوف. وهذا الإخبار مراد منه الأمر. والمعنى كما في "الجلالين": أخيفوهم بالجهاد، فلا يدخلها أحد آمنا. 

ونحو هذا قوله تعالى: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} (المائدة:106)، فقوله سبحانه: {حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم}، جملة خبرية بمعنى الأمر، أي: ليشهد حاضر الوفاة منكم اثنين عدلين. 

ومن هذا الباب قوله تعالى: {قال تزرعون سبع سنين دأبا} (يوسف:47)، فقوله سبحانه: {تزرعون}، خبر بمعنى الأمر، يعني: ازرعوا سبع سنين على عادتكم في الزراعة. والدليل على كونه في معنى الأمر قوله في ختام الآية نفسها: {فذروه في سنبله} (يوسف:47)، فما دام أمرهم بترك المزروع في سنبله، فلا بد أن يكون قد أمرهم بزراعته. 

ويدخل في هذا المعنى أيضا قوله تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان} (الرحمن:7)، فهذه جملة خبرية، بيد أن معناها الأمر بإقامة العدل والقسط؛ بدليل قوله سبحانه: {وأقيموا الوزن بالقسط} (الرحمن:9)، والقسط: العدل بالاتفاق. 

وأخيرا لا آخر، فإن قوله تعالى: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله} (الصف:11)، جملتان خبريتان بمعنى الأمر، أي: آمنوا بالله، وجاهدوا في سبيله. والتعبير بصيغة الخبر دون الأمر هنا -كما ذكر الآلوسي-؛ للإيذان بوجوب الامتثال. كأن الإيمان والجهاد قد وقعا فعلا، فأخبر بوقوعهما.

وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: {اسمه يحيى} (مريم:7)، وقوله تعالى: {فإنه يتوب إلى الله متابا} (الفرقان:71)، وغير ذلك مما لا يسعف المقام بتتبعه. 

الخبر بمعنى النهي 

والجملة الخبرية كما تأتي بمعنى الطلب والأمر، فإنها تأتي أيضا بمعنى الترك والنهي؛ لمعنى يراد. من أمثلة ذلك قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة:79)، فهذه جملة خبرية، معناها: النهي عن مس القرآن حال عدم الطهارة.

ومما هو من هذا السبيل قوله تعالى: {إنه لا يحب المعتدين} (الأعراف:55)، فالجملة خبرية أيضا معناها النهي؛ بدليل قوله تعالى: {ولا تعتدوا} (المائدة:87).

وعلى هذا السنن أيضا يمكن أن يفهم قوله تعالى: {والله لا يحب الظالمين} (آل عمران:57)، وقوله سبحانه: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخور} (النساء:36)، وقوله عز وجل: {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} (النساء:107)، ونحو ذلك من الآيات. 

الأمر بمعنى الخبر 

في الاتجاه المقابل، فإن الجملة الطلبية في القرآن قد تأتي بمعنى الأمر لفائدة ما. وقد ذكر ابن عطية في "تفسيره" أن هذا الأسلوب "موجود في كلام العرب وفصاحتها". ونقل عن القفال قوله: "ومجيء الأمر بمعنى الخبر كثير في كلامهم، كقولهم: إذا لم تستح فاصنع ما شئت". وقال الآلوسي: "وكثيرا ما يستعمل الأمر بمعنى الخبر كعكسه". 

ومن الأمثلة القرآنية على هذا الأسلوب قوله سبحانه: {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم} (التوبة:53). فقوله تعالى: {قل أنفقوا}، أمر بمعنى الخبر. قال الآلوسي: "وأخرج الكلام مخرج الأمر؛ للمبالغة في تساوي الأمرين في عدم القبول، كأنهم أمروا أن يجربوا، فينفقوا في الحالين، فينظروا: هل يتقبل منهم، فيشاهدوا عدم القبول". 

وبحسب هذا المنحى قوله عز وجل: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} (العنكبوت:12)، فقوله تعالى: {ولنحمل خطاياكم} أمر بمعنى الخبر؛ بدليل قوله في نهاية الآية نفسها: {إنهم لكاذبون}. والتكذيب إنما يتطرق إلى الأخبار، ولا يتطرق إلى الجمل الطلبية. 

وعلى هذا السبيل قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات} (البقرة:126)، فقوله سبحانه: {وارزق أهله من الثمرات} أمر بمعنى الخبر. قال الآلوسي: "وفائدة العدول -يقصد العدول من صيغة الخبر إلى صيغة الأمر- تعليم تعميم دعاء الرزق، وأن لا يحجر في طلب اللطف...فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن". 

وقوله عز من قائل: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا} (مريم:75)، أمر بمعنى الخبر، معناه: أن من كان ضالا من الأمم، فعادة الله فيه أن يمد له، ولا يعاجله، حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة. قال البغوي: معناه: يدعه في طغيانه، ويمهله في كفره. وقال ابن عطية في تعليل هذا الأسلوب: إن لام الأمر "دخلت في معنى الخبر؛ ليكون أوكد وأقوى".

وبحسب هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: {سيروا فيها ليالي وأياما آمنين} (سبأ:18)، وقوله سبحانه: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} (التوبة:82)، وقوله عز وجل: {فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي} (الفجر:29-30).

أخيرا، فإن الوقوف على هذه الأساليب القرآنية، ومعرفة المقصود منها على غاية من الأهمية؛ لما في ذلك من عون للقارئ والمفسر سواء على فهم المقصود من الآيات؛ وبالتالي فلا ينبغي أن يغفل عن مثل هذه الأساليب أو يتغافل عنها، لما يؤدي ذلك من قصور واختلال في فهم المراد من آيات القرآن الكريم. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة