الدعاة والهم المقعد..!

0 1127

عندما يجمع السائرين على درب الدعوة إلى الله مجلس للتواصي، فإن من أبرز ما يغلب على تلك الملتقيات المباركة: اتهام النفوس بالتقصير، وعدم القيام بواجب الدعوة على الوجه الأمثل..

وحق لهم ذلك؛ فإن الصالحين من عباد الله ما زال هذا دأبهم وديدنهم على مر التاريخ؛ وتمتلئ كتب السير والرقاق بالمأثور عن السلف - رحمهم الله - في محاسبة النفس، ولومها على التفريط في جنب الله - تعالى -، مع أنهم هم القدوة في الزهد والورع والعبادة، لكنهم عبدوا الله على بصيرة، فكانت خشيتهم لله - تعالى - ثمرة علمهم وفقههم في الدين، ومعرفة الله - عز وجل -، قال - سبحانه -:[إنما يخشى الله من عباده العلماء] (فاطر: 28)، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: "ليس العلم عن كثرة الحديث ولكن العلم عن كثرة الخشية" (ذكره ابن كثير في تفسير الآية).

لكن أمرا مهما ينبغي ألا يغيب عن الأذهان، وهو أن شرود الكثير من الناس عن الحق والهدى ليس بالضرورة وفي كل الأحوال أن يكون سببه هو تقصير الدعاة وأهل الخير. ومن القواعد المعلومة بنص القرآن الكريم أن هداية الناس أمرها إلى الله - تعالى -، وليس العبد مأمورا بتحقيقها، لكنه يبذل جهده في هداية الدلالة والإرشاد، ويكل حصول هداية القلوب إلى من بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء:

قال - تعالى -:[وما على الرسول إلا البلاغ المبين](النور: 54).

وقال - سبحانه -:[إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين](القصص: 56).

وقال الله - عز وجل -:[وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين](الأنعام: 35).

قال الشوكاني - رحمه الله - في "فتح القدير": ".. عن ابن عباس قال: [فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض] والنفق: السرب، فتذهب فيه فتأتيهم بآية، أو تجعل لهم سلما في السماء فتصعد عليه [فتأتيهم بآية] أفضل مما أتيناهم به، فافعل [ولو شاء الله لجمعهم على الهدى] يقول - سبحانه - لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين".

وقال القرطبي - رحمه الله - في "الجامع لأحكام القرآن": "..[فلا تكونن من الجاهلين]أي: من الذين اشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد وإلى ما لا يحل. أي: لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين".

والأعجب من ذلك أن ينسب إلى تقصير الدعاة: انتكاس المنتكسين، ورجوع بعض التائبين على أعقابهم بعد حين! فهل يملك الدعاة مفاتيح الثبات؟! أم أنهم هم أنفسهم يتعوذون بالله من الحور بعد الكور، ومن مضلات الفتن والأهواء؟!

[ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم.. ](المائدة: 41).

إن الغلو شر كله، حتى في المشاعر! وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد نهي (وهو خير البشر وأصدقهم غيرة وأعلاهم همة) عن إهلاك النفس بالحسرات:

[فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا](الكهف: 6).

[فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون](فاطر: 8).

وبهذا يظهر الفرق بين الهم النابع من علو الهمة، ومحاسبة النفس، الذي لا يكاد ينفك عنه الدعاة الصادقون؛ فيؤجج الحماسة في نفوسهم للمزيد من البذل والعطاء، وبين الهم المحبط المقعد الذي يقبع أصحابه في دائرة مغلقة عليهم لا يكادون يبرحونها، بدلا من مغالبة التقصير (الذي ينتقدونه!) ودفعه عن أنفسهم.

ـــــــــــــــــــــــــــ

خالد عبد اللطيف

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة