الفتوحات الإسلامية.. وشروط التأييـد الإلهي

0 888

من الثابت أن العقيدة القتالية في الفكر العسكري الإسلامي ترتكز إلى تضافر ما يسمى بالشروط الموضوعية أي فهم واستيعاب أبعاد الواقع (الجيوسياسي) الذي ستدار المعركة في كنفه، مع الشروط العقائدية؛ أي المخزون الإيماني المتجذر في الوجدان الجماعي للأمة، والذي يجعله الإسلام العامل الأكثر حسما في توجيه مسار الحرب، إما نحو النصر أو نحو الهزيمة.

وإذا كان الخطاب القرآني يعلي من شأن الشروط الموضوعية (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل).[الأنفال: 60]. وكذلك كان النبي القائد مؤصلا لهذا المفهوم على الصعيدين السياسي والعسكري حين أبرم عقود البيعة "بيعة العقبة"، وعقود الصلح "صلح الحديبية"، وفاوض قادة غطفان و"نجد" في غزوة الأحزاب، واختار موقع نزول الجيش يوم "بدر" بعد إعمال أساليب استثمار الخصائص البيئية والجغرافية للموقع عسكريا امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "بل إنها الرأي والحرب والمكيدة".

بل إن كتب السيرة تذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قام بعمليات جمع وتحليل المعلومات عن العدو؛ إذ استجوب - صلى الله عليه وسلم- غلامين من "سقاة قريش" أسرهما نفر من الصحابة كانوا يلتمسون الخبر له عند ماء بدر، ويسجل ابن هشام الاستجواب على النحو الآتي:
قال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم-: كم القوم؟
قالا: كثير.
قال: ما عدتهم؟
قالا: لا ندري.
قال: كم ينحرون كل يوم؟
قالا: يوما تسعا ويوما عشرا
قال النبي: القوم فيما بين التسعمائة والألف.

ونحو ذلك من الوقائع التي تعكس إعلاء الخطاب السياسي الإسلامي في عهد النبوة، من قيم الاعتبارات الموضوعية المؤثرة في حاضر ومستقبل الجماعة الإسلامية.

ولئن كان الأمر كذلك فإنه في الوقت ذاته يرفض الاعتقاد بأنها المعيار المطلق أو القيمة المثلى التي يستند إليها في استشراف ما ستؤول إليه الأوضاع بعد أن تضع الحرب أوزارها، والتراث العسكري الإسلامي يحتفظ لنا بتجربتين تعكسان فساد الرؤية المرتكزة إلى الأرقام والحسابات العقلانية وحسب في تأطير مقومات النصر من جهة وأسباب الهزيمة من جهة أخرى.

الأولى يوم بدر؛ إذ كان المسلمون - كما وصفهم القرآن آنذاك- "أذلة"، في إشارة إلى ضعف العدد والعدة، والحصار الحديدي الذي فرضته قريش سياسيا وعسكريا واقتصاديا على المسلمين، والمدعوم بحقد وكراهية القبائل الأخرى المنتشرة بطول الجزيرة العربية وعرضها، ومع ذلك كان النصر حليف هذه الفئة المستضعفة (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة). [آل عمران: 123].

والثانية يوم حنين؛ إذ كان التفوق العسكري لصالح المسلمين "اثنا عشر ألف مقاتل"، والمدعوم بصعود معنوي هائل بلغ الذروة إثر فتح مكة، وإخضاع "قريش" القوة العسكرية الرئيسة في الجزيرة لسلطة الدولة الإسلامية الوليدة، وعلى الرغم من ذلك لحقت الهزيمة بهم في بادئ الأمر (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين). [التوبة: 25].

ومن هنا كان العقل العسكري الإسلامي شديد الخصوصية والتميز من نظيره المصاغ وفق معايير ونظم مادية إلحادية محضة؛ إذ أن الأول ينزع الى رفض الانصياع الكامل لسلطة التفوق العسكري كشرط ينفرد وحده في توجيه مسار الحرب؛ فهو يؤمن بأن إلحاق الهزيمة بالعدو ليس مناطا بالفلسفة الكمية وحدها، ولكنه مناط أيضا بربط الأخيرة بهذا الثابت القرآني الخالد (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). [محمد: 7]، فهو يجمع بين ما هو موضوعي أي التوظيف الإستراتيجي للواقع وما هو إيماني في عقيدته القتالية، وهو ما يفسر انتصاراته الساحقة والمتلاحقة، حتى وإن كان يتبوأ موقع الاستضعاف وعدوه يتبوأ موقع التمكين (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره). [الأنفال: 26].

شروط التأييد الإلهي
التأييد من قبل الله مرهون باستيفاء ما أشار إليه القرآن والسنة المطهرة من شروط، والتي يمكن إجمالها في أن تستقي الحرب مشروعيتها من إعلاء كلمة الله وإخلاص النية في ذلك وفق الضوابط الإسلامية والأخلاقية، فيما يمكن تسميته بـ"فقه الحرب".

والتأييد يأتي في شكل قانون من نمط آخر يتعالى على ما هو مألوف في حياة البشر من قوانين يفكك الثابت من النقائض، ويعكس ما تشير إليه من دلالات، وهى على حالها معلنا، أكذوبة عبادة القوة أو الآلة العسكرية، أو أنها تكفل وحدها إحراز النصر (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور). [الأنفال:44].

ولذلك كان المفكر الفرنسي (روجيه جارودي) - وقبل أن يشهر إسلامه- شديد الوعي بهذه التجربة العسكرية الإيمانية الفريدة؛ إذ نجده يقول: إن انتشار الإسلام لا يشابه أي انتشار سبقه أو أتى بعده من غزوات كانت تقوم بها بدو آسيا، وكذلك من احتلال قام به الأوروبيون لغزو البلاد الضعيفة بالمدفع والبندقية والرشاش، فلم تكن الجزيرة العربية آهلة بالسكان، ولم يمتلك العرب مثل ما كان في بلاد فارس أو بيزنطة من الأسلحة والتقنيات العسكرية.

فالدولة الإسلامية إذا لم تقم على مبدأ القوة الذي يمنحها تفوقا عسكريا ساحقا، ولا يمكن فضلا على ذلك تطبيق أي من النظريات ذات المنحى الماركسي الضيق والموجز، والتي تحاول أن تبحث عن سبب التاريخ وثوراته وتحولاته، قياسا على التقنيات والعلاقات الاقتصادية وصراعات الطبقات التي تنشأ عنها، ثم يقر (جارودي) بما سبق وأشرنا إليه حين يقول: "إن هذا التوسع الإسلامي السريع، والذي أدى غداة وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم- خلال اثني عشر عاما من عام 633 م حتى عام 645 م إلى تثبيت تفوق المسلمين في فلسطين وسوريا وما بين النهرين ومصر، وهو انتشار لم يستطع إيقافه إلا العوائق الطبيعية فقط كسلاسل الجبال في آسيا الوسطى وفي إيران الشرقية وصحارى سيرتيايك والنوبة.

إن سبب هذا الانتشار السريع يرجع إلى أسباب داخلية مرتبطة بجوهر الإسلام نفسه، ولا يمكن تفسيره بأسباب خارجية أو حتى بضعف أو تفكك الإمبراطوريات المهزومة مثل: الرومانية في الشرق والفارسية، وقبائل القوط الجنوبية في آسيا ولا حتى لأسباب عسكرية فقط". ومن ثم فإن محاولات "مركسة" التاريخ الإسلامي (التفسير الطبقي للفتوح)، أو علمنته عموما (تهميش الدور الطليعي للدين في نهضة الماضي) إنما تنطلق عن وعي مشوه يفتقر إلى الحس التاريخي الناضج القادر على سبر غور الحقائق التاريخية.. إنها رؤى تتخذ من الظاهر فقط مادتها التحليلية. وصدق الله العظيم إذ يقول: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا). [الروم:7].
ــــــــــــــــــــ
محمود سلطان "المصريون"

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة