فتنة اجتماع الكفر والقوة المادية

0 1104

شاء الله تعالى بحكمته أن يعطي نعمه للكافرين به كما يعطيها للمؤمنين. قال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون}[الأعراف: ٢٣]. وقوله تعالى: {خالصة يوم القيامة} يفيد أنها ليست خالصة لهم في هذه الدنيا.

وعندما دعا أبو الأنبياء ربه قائلا: {رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} [البقرة: ٦٢١]؛ أجابه - تعالى - بقوله: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} [البقرة: ٦٢١].

ونحن نرى في واقعنا تصديقا لقول الله هذا؛ فالكفار كانوا وما يزالون يستمتعون بخيرات الدنيا في كل زمان ومكان، لكن الكفار ضلوا في استمتاعهم بهذه النعم من عدة جهات:
فهم لا يشكرون الله - تعالى - عليها بل يجحدون فضله.
وهم يرون أنهم إنما أعطوها بسبب اجتهادهم أو علمهم أو ذكائهم.

ومنهم من يرى أن الله - تعالى - إنما أعطاه إياها؛ لأنه يستحقها، فهذا قارون يقول: {إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} [القصص: ٨٧].
قال الإمام ابن كثير مفسرا هذه الآية الكريمة: (أي...... فإن الله - تعالى - إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه، ولمحبته لي. فتقديره: إنما أعطيته لعلم الله في أني أهل له).

وهذا صاحب الجنتين يقول عنه - سبحانه -: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا}[الكهف: ٥٣ - ٦٣].

فأمثال هؤلاء الكفار لا يرون أنهم متفوقون على غيرهم من حيث المال فقط، بل يعدون تفوقهم المادي دليلا على تفوقهم الإنساني.
وهم يعدون القوة المادية دليلا على صحة ما عندهم من معتقدات وطرق حياة، وبطلان معتقدات من هم أقل منهم حظا من هذه القوة. قال - تعالى -: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا}[مريم: ٣٧ - ٤٧].

إن الإنسان العاقل ينظر في الكلام الذي يقال له؛ فإن رأى عليه أدلة دالة على صوابه قبله، وإن لم يدل على صوابه دليل رفضه. أما هؤلاء الذين لا يعقلون فإنهم يستدلون على خطأ الكلام بالحال المادي لقائله؛ فإن كان مثلهم أو أكثر منهم قبلوه، وإن كان أقل منهم رفضوه.

فهؤلاء لما كانوا يرون أنفسهم في دور خير من دور المؤمنين ولهم نواد ليست للمؤمنين؛ استدلوا بذلك على أن ما هم عليه من الشرك لا بد أن يكون أصدق من التوحيد الذي يدعوهم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن الله - تعالى - يذكرهم بأن المتع المادية لا يمكن أن تكون برهانا على الحق؛ إذ لو كانت كذلك لما أهلك الله - تعالى - من كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا (ابن كثير).

وإذا كان الربط بين الحق والقوة المادية - في أصله - اعتقادا كفريا؛ فإن لبعض المسلمين نصيبا منه؛ لا سيما في عصرنا هذا الذي تفوق فيه الكفار على المسلمين تفوقا ماديا كبيرا.

لقد صارت الدول الأضعف تسمى بالدول المتخلفة، وهو ليس وصفا لها بالضعف المادي فحسب، ولكنه وصف يتضمن نوعا من الإدانة الخلقية أو الإنسانية. وينسى المسلمون الذين يصفون بلادهم بهذا الوصف أنه لم يكن للبلاد الإسلامية في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -  من عمارة الأرض ما كان لفارس والروم. انظر إلى مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أعظم مؤسسة كانت في زمانه، لقد كانت أعمدته من جذوع النخل، وكان سقفه من الجريد، وكانت أرضيته ترابا، فكان المطر إذا نزل صار المسجد كالوحل، وكانت الكلاب تدخل فيه وتخرج. قارن هذا بما كانت عليه كنائس أهل الكتاب وبيعهم في أوروبا.
وقد علم الله - تعالى - هذه الحقيقة عن بلاد العرب، لكنه - سبحانه - اختارها مع ذلك لتكون محلا لرسالته، و{الله أعلم حيث يجعل رسالته}[الأنعام: ٤٢١].

وهذا لا يعني أن القوة المادية ليست مهمة، بل هي مهمة؛ لأن التمكين في الأرض لا يكون إلا بها، لكنها في الدرجة الثانية بعد الدين الحق. ولذلك فإن الله - تعالى - أكرم أصحاب هذا الدين فأعطاهم من القوة ما استطاعوا به أن يغلبوا تلك الدول ويخضعوها لسيطرتهم. لقد أكرمهم الله - تعالى - هذا الإكرام لما علم صدق إيمانهم بالحق الذي جاءهم به رسوله، وتفضيلهم إياه على كل ما عند تلك البلاد من عقائد وقيم وسلوك ومتع. وهكذا يفعل - سبحانه - مع كل أمة تسلك منهجهم وتقتفي طريقهم.

لقد حذرنا الله - سبحانه - في آيات كثيرة من كتابه العزيز من الاغترار بما ينعم به - سبحانه - على الكفار من النعم المادية، من ذلك: قوله - سبحانه -: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد} [غافر: ٤].

قال الإمام الطبري معلقا على هذه الآية الكريمة في تفسيره: "يقول - جل ثناؤه -: فلا يخدعك يا محمد! تصرفهم في البلاد وبقاؤهم ومكثهم فيها، مع كفرهم بربهم، فتحسب أنهم إنما أمهلوا وتقلبوا، فتصرفوا في البلاد مع كفرهم بالله، ولم يعاجلوا بالنقمة والعذاب على كفرهم؛ لأنهم على شيء من الحق.

وقال - تعالى -: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد * لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار} [آل عمران: ٦٩١ - ٨٩١].

إن الذين يشككهم التقدم المادي للكفار في دينهم، ويضعف إيمانهم به؛ فإنهم يظلون متخلفين ماديا كما هم ضعفاء دينيا.

كنت قبل بضع سنين في مؤتمر إسلامي التقيت فيه بأحد الدعاة القادمين من أوروبا، وعجبت لكلمة قالها، قال: إن الديمقراطية خير نظام توصلت إليه البشرية! ثم رأيت هذه العبارة شائعة على ألسنة كثير من الناس حتى من كان منهم من المصلين. والعبارة ليست خطأ من حيث مخالفتها للشرع فحسب إذ معناها - إذا أخذت على ظاهرها - أن الحكم الديمقراطي خير من الحكم بما أنزل الله - تعالى - فهي بذلك خير من حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -  وحكم خلفائه الراشدين، ولكنها خطأ من حيث تصورها للحكم الديمقراطي.

إن الديمقراطية لا تقول كما يقول الشرع: احكم في المسألة الفلانية بالحكم الفلاني، بل تترك الحكم للشعب بحسب مفهوم كل دولة، ولذلك فإن الحكم في المسألة الواحدة قد يكون متعددا بل متناقضا بحسب ما يحكم به كل شعب ويكون مع ذلك كله ديمقراطيا لا شك في ديمقراطيته.

انظر إلى الفتنة التي أثارها - حتى بين بعض الإسلاميين - اختيار أمريكا لرجل أسود أن يكون حاكما لها. لقد استغربت والله من عد بعض الإسلاميين هذا الأمر دليلا على حسن الحكم الديمقراطي.

لقد نسي هؤلاء أن الديمقراطية لم تمنع بل أباحت للأمريكان أن يذهبوا إلى إفريقيا ويصطادوا الأفارقة كما تصطاد الوحوش، وحشرهم في سفن كما تحشر البضائع، ثم بيعهم بمزادات علنية كما تباع البهائم.

فالديمقراطية ليست هي التي ألزمت الناخبين الأمريكان بانتخاب أوباما الأسود، لكنها لم تمنعهم من انتخابه. فما الشيء الرائع في هذا؟

إن الرائع هو أن تحكم كما يحكم الإسلام بأن أكرم الناس أتقاهم، وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
ــــــــــــــــــ
أ. د. جعفر شيخ إدريس

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة