عبد شكور

0 1038

عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : " قام النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تورمت قدماه فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: (أفلا أكون عبدا شكورا؟ ) " متفق عليه واللفظ للبخاري .

وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : (أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟ ) فلما كثر لحمه صلى جالسا".

معاني المفردات

تورمت : انتفخت.

تفاصيل الموقف

النبي – صلى الله عليه وسلم –كما نعرفه: خاتم الأنبياء، وصفوة الأولياء، وخير البرية، وهادي البشرية، شفيع الخلق يوم القيامة، وأول من يفتح له باب الجنة، الموعود بالمقام المحمود الذي لا يبلغه أحد، والمغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

أفمن كان بتلك المنازل العالية، والمقامات السامية، والوعود الإلهية في دنياه وآخرته، أليس الحري به أن يركن إلى ذلك كله؟ بدلا من إجهاد النفس بالعبادة وإدخال المشقة عليها بالقيام؟ وحرمانها من نصيب أكبر من الدنيا، والإكثار عليها بألوان الذكر والصلوات، على نحو يفوق تحمل الصحابة رضوان الله عليهم – وهم من هم – فضلا عن غيرهم؟.

ولكنه الدرس العظيم، والحكمة الرائعة، والرؤية الثاقبة، والمنطق الرزين، لحقيقة العبودية وأسرارها، ومقتضيات النعمة ومتطلباتها، في لوحة نبوية مشرقة الجنبات، متلألئة الأنوار،تسر الناظرين، وتهدي الحائرين.

ولباب القصة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ومنذ أن نزل عليه قول الحق جل وعلا : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } ( المزمل : 5 ) صار ديدنه إذا ادلهم الليل واشتدت ظلمته، أن يلقي بالدنيا وراء ظهره، ويغلق بابها خلفه، بكل أحداثها ومواقفها، وشخصياتها وعلاقاتها، قاصدا ركن بيته، مقبلا على ربه وخالقه، وسيده ومولاه، بكل جارحة من جوارحه، يعمل فكره في آلاء الله عليه، ويتدبر آيات أنزلت عليه، متبتلا في محرابه ساجدا وقائما، ويظل على حاله ذلك حتى يتصرم الليل ولا يبقى منه إلا شطره الأخير، ثم يدعو بما فتح الله عليه.

وتلحظ عائشة رضي الله عنها طول قيام النبي – صلى الله عليه وسلم -، وتبصر آثار ذلك واضحة جلية، فالشقوق وجدت طريقها في القدمين الشريفتين، علاوة على الانتفاخ الحاصل فيهما جراء الوقوف الطويل.

وهنا تشفق عائشة رضي الله عنها على زوجها، ويؤلم قلبها ما تراه من إجهاد النبي – صلى الله عليه وسلم – لنفسه في سبل العبادة وطرائقها، لتخاطبه خطاب المحب العطوف : " لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ " وكأنها رضي الله عنها تترجاه أن يخفف على نفسه ويعطيها مساحة أكبر من الراحة، ما دامت البشرى الإلهية بغفران الذنوب متحققة.

ويأتي جواب النبي – صلى الله عليه وسلم – ناطقا بالحكمة، في كلمات معدودة، تخاطب في المرء أول ما تخاطب وجدانه، وترشده إلى أفق أرحب، وتصور أشمل: ( أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟ ) فعبادة الله سبحانه وتعالى لا تكون خوفا من عواقب الذنوب فحسب، ولا طلبا للرحمة وكفى، بل تكون كذلك صورة من صور الشكر للمنعم على إنعامه، والاعتراف له على توفيقه وامتنانه، والأنبياء هم أولى الناس طرقا لهذا الباب، حيث اصطفاهم الله بالرسالة، وزينهم بالعصمة والجلالة، وأعظم بها من نعمة.

إضاءات حول الموقف

الشكر من شعب الإيمان الجامعة، يملأ النفس رضا بالخالق، والقلب سلامة من الغل، ويورث الأخلاق شعورا بالقناعة، لينعم صاحبها بالراحة والسعادة.

ولعظم فضل هذه العبادة وعلو منزلتها، تضافرت النصوص الشرعية في ذكرها وامتداح أهلها، وفي الثناء عليها والدعوة إليها، والآيات والأحاديث في ذلك ليست بالقليلة، وحسبنا أن نقرأ دليلا لما سبق قوله تعالى : { وسنجزي الشاكرين  } (آل عمران : 145 )، وقوله تعالى : { ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله } ( لقمان : 12 )، وقوله : { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } ( الزمر : 66 )، وغيرها من الآيات.

وكم حملت السنة في جنباتها من الأذكار والمحامد التي تنطق بالاعتراف بما أحدثه الله للناس من الفضائل، وما كاثره عليهم من الخيرات، وما أسبغه عليهم من النعم، تربية للمؤمن كي يكون شكره لربه وخالقه ديدينه وعادته في أحواله كلها، وأوقاته جميعها، من مبدأ يومه إلى منتهاه.

ومن خلال  تتبع ما ورد بخصوص الشكر في القرآن والسنة يتبين أنه يكون بالقول كحال الأذكار المشروعة، ويدخل في هذا الباب نسبة النعمة إلى المنعم سبحانه، قال تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } ( النحل : 53 )، ويكون كذلك بالفعل، ويستدل لهذا المعنى بقوله تعالى : { اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } ( سبأ : 13 )، ومن هذا الشكر ما كان يصنعه النبي – صلى الله عليه وسلم – من إطالة الصلاة والقيام على النحو الذي ورد في الحديث السابق.

ومهما أنفق العبد من الأوقات اجتهادا منه لأداء شكر نعمة واحدة فلن يؤدي حقها، بل لو قضى عمره كله في إحصائها وتتبعها فلن يطيق ذلك، فالحمد لله الذي رضي من عباده اليسير من العمل، وعاملنا بإحسانه وفضله.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة