عوامل الصبر والثبات عند الرعيل الأول

2 1334

مع بداية ظهور دعوة الإسلام في مكة وانتشارها بين الناس ودخول البعض فيها طاشت أحلام زعماء قريش وكبرائها وبدءوا حملة لدرء خطر الدين الجديد، وردع الناس عن اتباعه، وتخويفهم من مغبة مجرد التفكير في قبوله أو الدخول فيه؛ فعانى أتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم من الرعيل الأول من صنوف الاضطهاد، وأنواع التعذيب والإيذاء ما يشيب له رأس الصغير، وبقف من سماع وقائعه شعر الكبير وتطيش له العقول، وتضطرب له الأفئدة.. وقد قابل هؤلاء المقهورون المستضعفون هذه البلاءات وتلك الإساءات والابتلاءات بثبات تحتار له القلوب وتندهش له العقول.

فما الذي يجعل هؤلاء يتحملون كل هذا العناء؟ ومن أين يأتيهم ذاك الثبات؟ ومن أين تتنزل عليهم تلك السكينة؟ ومن أي معين يغترفون كل هذا الصبر العجاب؟

وللحق فقد كانت هناك أسباب أعانت هؤلاء الكرام على الصبر والثبات، وهي أسباب يمكن أن يستمد منها الدعاة ثباتهم على الدعوة والصبر عليها فليست هي خاصة بالأولين وإنما هي لكل من سلك هذا السبيل.. فمن هذه العوامل والأسباب:

1 ـ الإيمان بالله:

كان الإيمان بالله وحده ومعرفته حق المعرفة، أهم تلك الأسباب بل كان السبب الرئيس، فالإيمان الجازم إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش، وإن صاحب هذا الإيمان المحكم وهذا اليقين الجازم يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت ـ يراها في جنب إيمانه ـ طحالب عائمة فوق سيل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة، فلا يبالى بشيء من تلك المتاعب أمام ما يجده من حلاوة إيمانه، وطراوة إذعانه، وبشاشة يقينه {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17].

 

ويتفرع من هذا السبب أسباب أخرى تقوي هذا الثبات وتلك المصابرة وهي:

2 ـ قيادة تهوى إليها الأفئدة:

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو القائد والقدوة والنموذج والأسوة ـ يجمع من جمال الخلق، وكمال النفس، ومكارم الأخلاق، والشيم النبيلة، والشمائل الكريمة، ما تتجاذب إليه القلوب وتتفانى دونه النفوس، وكانت أنصبته من الكمال الذي يحبب لم يرزق بمثلها بشر. وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل. وكان من العفة والأمانة والصدق، ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلا عن محبيه ورفقائه، لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها.

فلم يكن عجبا أن حل من أصحابه ورفقائه محل الروح والنفس، وشغل منهم مكان القلب والعين، فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الحدور، وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس.

فصورته هيولى كل جسم ومغناطيس أفئدة الرجال

 

وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم وتفنى نفوسهم، ويفقدون النفس والمال والولد ولا يخدش له ظفر أو يشاك بشوكة. وقد نقلت أحداث السيرة من نوادر الحب والتفاني في مواضع شتى ومواقف عديدة أثر هذه المحبة عليهم، ولا سيما ما وقع من أبي بكر في الهجرة وقبلها عندما آذاه المشركون، وما كان من عجائب في يوم أحد، وما وقع من خبيب وأمثاله.

 

3 ـ الشعور بالمسئولية:

فكان الصحابة يشعرون شعورا تاما ما على كواهل البشر من المسئولية الفخمة الضخمة، وأن هذه المسئولية لا يمكن عنها الحياد والانحراف بحال، فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد وخامة وأكبر ضررا عما هم فيه من الاضطهاد، والخسارة التي تلحقهم ـ وتلحق البشرية جمعاء ـ من جراء هذا الفرار، لو كان، لا يقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل.

 

4 ـ الإيمان بالآخرة:

وهو مما كان يقوى هذا الشعور ـ الشعور بالمسئولية ـ فقد كانوا على يقين جازم بأنهم يقومون لرب العالمين، ويحاسبون على أعمالهم دقها وجلها، صغيرها وكبيرها، فإما إلى النعيم المقيم، وإما إلى عذاب خالد في سواء الجحيم، فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه، وكانوا {يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 60] ، وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوى جناح بعوضة في جنب الآخرة، وكانت هذه المعرفة القوية تهون لهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها؛ حتى لم يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها بالا. خصوصا وأنهم يعلمون أن عاقبة ما هم فيه الجنة وهي الفوز العظيم والنعيم المقيم، ولذا لما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على نصرته مقابل الجنة قالوا: "ربح البيع والله لا نقيل ولا نستقيل"، فكانت الجنة نصب أعينهم كأنها رأي العين فما زالوا يعملون لها ويصبرون من أجل الفوز بها أعطاهم الله ما أملوا وبلغهم ما أرادوا فكانت لهم الحسنى وزيادة رضي الله عنهم أجمعين.

 

5 ـ القرآن الكريم:

فكانت سوره وآياته تتنزل عليهم في تلك الفترات العصيبة الرهيبة الحالكة تقيم الحجج والبراهين على صدق مبادئ الإسلام وعظمة دعوته بأساليب منيعة، وتعبيرات خلابة بديعة، تثير مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد، وتضرب لذلك الأمثال، وتبين لهم ما فيه من الحكم {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214]، {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت1: 3].

كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين ردا مفحما، ولا تبقى لهم حيلة، ثم تحذرهم مرة عن عواقب وخيمة ـ إن أصروا على غيهم وعنادهم ـ في جلاء ووضوح، مستدلة بأيام الله، والشواهد التاريخية التي تدل على سنة الله في أوليائه وأعدائه، وتلطفهم مرة، وتؤدى حق التفهيم والإرشاد والتوجيه حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين.

 

وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر، ويبصرهم من مشاهد الكون وجمال الربوبية، وكمال الألوهية، وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنينا لا تقوم له أي عقبة.

وكانت في طى هذه الآيات خطابات للمسلمين، فيها {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} [التوبة: 21] ، وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالمين يحاكمون ويصادرون، ثم {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر} [القمر: 48].

 

6 ـ البشارات بالنجاح:

ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف، بل إن الدعوة الإسلامية تهدف ـ منذ أول يومها ـ إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم، وأن من نتائجها في الدنيا بسط النفوذ على الأرض والعالم لتقود الأمة الإنسانية والجماعة البشرية إلى مرضاة الله، وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار.

 

وكان القرآن ينزل بهذه البشارات ـ مرة بالصراحة وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين، وكادت تخنقهم وتقضى على حياتهم كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تماما أحوال مسلمى مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين، وإيراث عباد الله الصالحين الأرض والديار. فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية.

 

وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين} [الصافات: 171: 177] ،وقال: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45] ، وقال: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} [ص: 11]. ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} [النحل: 41]. وقال وهو يذكر الرسل: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} [إبراهيم: 13، 14].

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يقوم بمثل هذه البشارات بين آونة وأخرى، فكان إذا وافى الموسم، وقام بين الناس في عكاظ، ومجنة، وذى المجاز لتبليغ الرسالة، لم يكن يبشرهم بالجنة فحسب، بل يقول لهم بكل صراحة: (يأيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة).

وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب، وصرح لهم أنه يطلب منهم كلمة واحدة يعطونها تدين لهم بها العرب، ويملكون العجم.

وقال لخباب بن الأرت: (وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوى ـ والذئب على غنمه ) وفي رواية: ( ولكنكم تستعجلون )

 

ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة، بل كانت فاشية مكشوفة، يعلمها الكفرة، كما كان يعلمها المسلمون، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون.

وأمام هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا، مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة كان الصحابة يرون أن الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب، والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء ليست إلا: (سحابة صيف عن قليل تقشع).

 

هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذى أرواحهم برغائب الإيمان، ويزكى نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن، ويربيهم تربية دقيقة عميقة، يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح، ونقاء القلب، ونظافة الخلق، والتحرر من سلطان الماديات، والمقاومة للشهوات، والنزوع إلى رب الأرض والسموات، ويذكى جمرة قلوبهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذهم بالصبر على الأذى، والصفح الجميل، وقهر النفس؛ فازدادوا رسوخا في الدين، وعزوفا عن الشهوات، وتفانيا في سبيل المرضاة، وحنينا إلى الجنة، وحرصا على العلم، وفقها في الدين، ومحاسبة للنفس، وقهرا للنزعات وغلبة على العواطف، وتسيطرا على الثائرات والهائجات، وتقيدا بالصبر والهدوء والوقار.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة