حياة الشيخ عدود

3 1018

منح الله الشيخ محمد سالم ولد عدود ذاكرة قوية وهيأ له الأسباب بوجود والده ووالدته وهما موسوعتان فدرس عليهما مختلف العلوم الشرعية وتبحر فيها، وكان كل العلوم التي تدرس في هذه البلاد لديه سواء  كان أيضا على إلمام ببعض العلوم الأصلية التي يحتاج إليها الفقيه والمحدث والقاضي والداعية
فلم يكن منغلقا على كتب معينة ولم يكن حبيس المكتبة بل كان ذهنه سائلا وكان يطلع على المحافل العلمية وما فيها وعلى وسائل الإعلام وما تنشره المكتبات من الدراسات الحديثة ويشارك في المؤتمرات ويلقي الباحثين المبدعين ويستمع إليهم ويصحح ويقوم ويركب الأفكار من خلال ثقافته التي مصادرها متنوعة.

ويمكن أن نقسم العلوم التي تبحر فيها الشيخ إلى سلالات، فمنها – مثلا- علم القرآن الذي يشمل سبعة علوم: علم الأداء الذي هو علم التجويد، وعلم القراءات، وكان في تطبيقه وقراءاته حريصا على قراءة نافع وقلما يقرأ بغيرها.. والعلم الثالث علم التفسير وللشيخ إبداعات كثيرة في المقارنات والمقاربات في القرآن.. والعلم الرابع من هذه السلالة هو علم الرسم والضبط وهو من المتخصصين فيه وقد أخذه عن والدته رحمة الله عليها وكانت متقنة لهذا الفن
والفن الخامس من هذه السلالة هو علم علوم القرآن وهذا العلم يشمل العلوم المتعلقة بالقرآن التي جمعت تحت عنوان واحد كعلم أسباب النزول وعلم المكي والمدني وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم الشتوي والصيفي وعلم الترجمة ونحو ذلك، وهذا العلم ألف فيه الكثير من الكتب، والشيخ كان متخصصا فيه لأنه درسه وهو صغير.

العلم السادس من هذه السلالة هو علم تاريخ التفسير، والشيخ له مهارة تاريخية عجيبة في المقارنات في الكتب يرتبها حسب تاريخ مؤلفها ويحكم بالتصحيح والتضعيف بالتاريخ، فمثلا في كتب السيوطي يقول في ترتيبها في أبيات له:  
ما ذكر الخلال في الإتقان       وفي عقوده من الجمان
من منع الاقتباس عند مالك     أكثر في تنويره الحوالك
من رده ونسب الفشارى       لمن إلى تحريمه أشارا
أقول والتاريخ بالتأخير        يحكم للتنوير حاوي الخير
الفن السابع هو علم طبقات القراء والمفسرين.. والشيخ له عناية بهذا الجانب لأنه من المتعلقين بالإمام الذهبي..
أما السلالة الثانية التي برز فيها الشيخ محمد سالم واشتهر بها في هذه البلاد هي سلالة علم الحديث، وتشمل سبعة فنون أيضا منها: علم المصطلح، وقد حفظ ألفية العراقي وأتقنها وهو صغير وحفظ عددا كبيرا من كتب شروحها ومن غيرها.
الفن الثاني هو علم الحديث رواية، وقد اجتهد في طلب الرواية وأجازه عدد كبير من مشايخ الحديث، وأول من أجازه من المشاهير الشيخ محمد طاهر بن عاشور في تونس وهو مؤلف كتاب "التحرير والتنوير" (تفسير القرآن) ومؤلف كتاب "المسوي في شرح الموطأ" ثم أجازه عدد من علماء الحجاز والشام والهند في كتب الحديث.

والعلم الثالث من علوم الحديث هو علم متون الحديث، ومن عنايته بهذا الفن أنه رتب لنفسه دراسته على نحو ما رتبه العراقي في ألفيته..
الفن الرابع هو علم شرح الحديث وقد اعتنى الشيخ محمد سالم به فاجتهد بمعرفته في شروح الصحيح للبخاري بالأخص فتح الباري للحافظ بن حجر وشرح الكرماني وإرشاد الساري للقسطلاني، فهذه الشروح الثلاثة كان مهتما بها اهتماما بالغا، وكذلك شروح الموطأ وخاصة التمهيد والاستذكار لابن عبد البر والمنتقي للباجي وشرح محمد بن عبد الباقي الزرقاني.
العلم الخامس من هذه السلالة هو علم الرجال، فدرس كتاب "الجرح والتعديل" لابن حاتم الرازي، وهو من أول الكتب في علم الرجال التي اقتناها الشيخ، وكان يحفظ تقريبا التراجم التي أوردها الذهبي في ميزان الاعتدال والتراجم التي أوردها الحافظ بن حجر زيادة عليه في لسان الميزان.  
العلم السادس من هذه السلالة علم التخريج ودراسة الأسانيد، وقد أولاها الشيخ عناية كبيرة.

ومن العلوم التي برز فيها الشيخ محمد سالم سلالة الفقه، وهذه السلالة فيها أربعة عشر علما هي الفقه المذهبي، وقد تخصص شيخنا في المذهب المالكي ونظمه نظما كاملا، نظم أولا مختصر خليل ثم زاد عليه بشروحه ثم زاده المدونة والعتبية والذخيرة وغير ذلك من كتب المذهب، وهذا الشرح (كتاب) من أهم ما فيه استدراكه على كل الكتب المالكية المطبوعة، ما فيها من الأخطاء يبينه، من المدونة إلى مختصر خليل، وأيضا فإن كل فرع في المذهب المالكي من 120 ألف فرع يذكر أول من قال به، فإذا كان من اجتهاد مالك وخرج من دماغه يبين ذلك في العتبية أو المدونة، وإذا لم يكن من فقه مالك يبين أول من قال به هل هو لابن القاسم أو أشهب أو ابن نافع، وإذا لم يكن لأصحاب مالك يأتي بأول من قال به من أصحابهم كسحنون وإذا لم يكن من هؤلاء يأتي بطلابهم كـلباد ثم ينزل إلى أن يصل إلى خليل.. وهذا الكتاب طبع الآن تقريبا وقد عكف الشيخ حتى في مرضه الذي توفي فيه على إخراجه

ومن المعلوم أن الشيخ محمد سالم تولى القضاء في بداية تأسيس الدولة الموريتانية، حيث أرسل سنة 1965 ضمن بعثة إلى تونس، التي أقام فيها سنتين أتاحت له التدرب في المحاكم التونسية والاعتناء بتوثيق الأحكام فكانت المحكمة العليا ومحكمة الاستئناف في تونس تعهد إليه بتحرير الأحكام دون غيره لما لمست فيه من قدرة وعبقرية، وما زال يوجد إلى اليوم سجل للأحكام التي حررها في تلك الفترة في المحاكم التونسية.
ولدى قفوله من تونس تولى الشيخ عدود منصب نائب رئيس المحكمة الابتدائية، التي كانت المحكمة الوحيدة في البلد من هذه الدرجة في ذلك الوقت الذي كان القضاء الموريتاني ينقسم فيه إلى نوعين تجسدهما غرفتين للقضاء الشرعي والوضعي، تكون رئاسة المحكمة من نصيب هذه الأخيرة.
وشغل الشيخ عدود نائب رئيس المحكمة الابتدائية مدة طويلة، عمل خلالها بصبر وأناة على إلغاء القانون الوضعي وتهذيب ما لابد منه من القانون المدني.

 وخلال هذه الفترة نظم الشيخ القانون الدولي العام والقانون الإداري في ألفية تم طبعها كما سعى إلى تقنين الفقه المالكي وبدأ هذا المشروع وحده إلى أن تبنته الدولة سنة 1980 ليتوج بالمساطر الإجرائية الحالية في موريتانيا والتي من ضمنها مجلة المرافعات المدنية والتجارية.
وعين الفقيد قبل إلغاء القانون الوضعي نائبا لرئيس المحكمة العليا مدة طويلة ثم رئيسا للمحكمة العليا بعد إلغاء القانون المذكور وهذا آخر منصب له في القضاء.
 وخلال رئاسته للمحكمة العليا التي كانت هي المسؤولة عن أداء القضاة جميعا وتفتيشهم اعتنى بمسائل ومشاكل موروثة لم تحل قبله يعود بعضها إلى 170 سنة تناسختها الأجيال في الميراث ولم يحلها أي قاض قبله وهذا ما يشير إليه في شعره الشعبي الذي هو من باب الدعابة.
وقد ترك الشيخ عدود القاضي أثره وبصماته الواضحة في القضاء الموريتاني، فبالإضافة إلى المساطر القانونية التي أشرف على إعدادها، تتلمذ عليه العديد من القضاة النابهين الذين أخذوا عنه ولازموه.
وفي مجال الدعوة وإصلاح شأن المسلمين والذود عن حياض الإسلام كان الشيخ يشعر في شبابه بالمرارة لسيطرة الاستعمار على البلد وعمل جاهدا على التخلص منه وجسد ذلك في شعره حيث يقول:
كفى حزنا أن لا يزال يقودنا   على الخسف داع من دعاة جهنما
كما عمل على إصلاح التعليم عبر مشاركته في وضع المناهج التربوية في المعهد التربوي الوطني ومدرسة تكوين المعلمين والمدرسة الوطنية للإدارة، ومشروع جامعة نواكشوط.

وفي المجال الدعوي كان الفقيد من أوائل المحاضرين في هذا البلد في الموضوعات الدعوية العامة، حيث اعتنى بترشيد الشباب وتهذيب الشيوخ وفي ذلك يقول:
شكي دين الهدى مما دهاه    أيدي جامدين وملحدينا
شباب يحسبون الدين جهلا      وشيب يحسبون الجهل دينا
وفي المجال الاجتماعي بالخصوص كان الشيخ من كبار المصلحين في هذا البلد فحارب كثيرا من العادات الاجتماعية السيئة وقضى على كثير منها وكان يغير كثيرا مما درج الناس عليه في هذه البلاد من العادات الاجتماعية المخالفة للدين ومن ذلك قضاؤه على بدعة معروفة تعرف "بحل أصرر" وهي عادة نصرانية لم يكن الناس يستشعرون أصلها النصراني، وكذلك بعض البدع الأخرى التي أزالها أو تمكن من إزالتها ولو جزئيا في بعض المناطق.
ويتمتع الشيخ عدود رحمه الله بملكة عجيبة في الحفظ ورثها عن والده محمد عالي، الذي يعرف عنه أنه كان يحفظ كل ما يسمع، وقد درب ابنه الشيخ محمد سالم على ذلك حتى صقل هذه الملكة والموهبة.

فحدث أن اصطحب الشيخ محمد عالي ولده محمد سالم وكان يدرسه ترجمة الفاعل وشواهد كثيرة لها، ولما جلسا قال محمد سالم لوالده لقد حفظت 50 بيتا من هذه الشواهد في السماع الأول وأنشده إياها. وفي المجال الإنساني كان الشيخ رقيقا حنونا إذا رأي ضعيفا أو مظلوما لم تمنعه الشجاعة المعروفة عنه من أن تسيل دموعه ويرق لحاله، حيث كان يحضر مجالس العزاء والمناسبات الاجتماعية وينصح الناس، رجالا ونساء و أطفالا وكبارا، ويصحب حتى من هم أصغر سنا منه، ومثال ذلك صداقته لجمال ولد الحسن الذي كان بمثابة ولده وكذلك إبراهيم ولد الشيخ سيديا.
وكانت لديه صداقة حميمة مع كبار السن فالمختار ولد حامد  وعدد كبير من الذين اشتركوا معه في العمل أصدقاء له رغم أن المختار كان بسن والده.
والشيخ رحمه الله لم يكن يضربنا في تأديبه لنا وإنما كان إذا رأي من أحدنا ما لا يرضيه يغضب غضبا شديدا حتى يجف لسانه عن الكلام ولم يضرب أحدا منا قط.
ومن المعلوم أن محظرة الشيخ قديمة يعود تاريخ إنشائها إلى حوالي 300 سنة كما أن والده يعتبر أحد أعلام هذه المحظرة، الذين أعطوها شهرة كبيرة. ورغم أن الشيخ شغل عن التدريس في المحظرة، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يشغل جميع وقته بالتدريس، حتى في الطائرة ومن ذلك قوله:
وبعضه نظمته في القاهرة    وبعضه نظمته في الطائرة
وفي فترة عمله كان له طلاب يرافقونه وكان إذا أخذ الإجازة عاد إلى المحظرة ليزاول التدريس فيها.
وكانت محظرته تستقبل طلابا من الشيشان وأذربيجان وأوربا وأمريكا ومن داخل البلاد.

وفي المحظرة الآن نساء من الجزائر ومن ليبيا يدرسن كما يدرس أزواجهن وهذه ورثها كذلك عن والده. والشيخ محمد سالم كان يرى أن العلم حق للجميع وأنه عبادة بذاتها كما كان والده يقول: لا فرق عندي بين الصلاة والقراءة والتدريس فكلاهما يلزم الخشوع ويلزم أن يكون عبادة لله خالصة وكان يكره الكلام أثناء التدريس.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة