- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:من الهجرة إلى بدر
سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة إلى تثبيت دعائم الدولة الجديدة، فكانت من أولى خطواته المباركة، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، التي ذابت فيها عصبيات الجاهلية، وسقطت بها فوارق النسب واللون والوطن، وكانت من أقوى الدعائم في بناء الأمة، وتأسيس المجتمع المسلم الجديد في المدينة المنورة، حتى يتآلف ويقوى، ويكون صفا واحدا أمام أعدائه.
لقد وضعت الفترة الأولى من قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كلا من المهاجرين والأنصار أمام مسئولية خاصة من الأخوة والتعاون، وكانت هذه المؤاخاة أقوى في حقيقتها من أخوة الرحم، وكان الأنصار على مستوى هذه المسئولية، فواسوا إخوانهم المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم بخير الدنيا. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا) رواه البخاري. وقد ترتب على هذه المؤاخاة حقوق بين المتآخين، شملت التعاون المادي والرعاية، والنصيحة والتزاور، والمحبة والإيثار..
يحدثنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عما وصلت إليه هذه المؤاخاة فيقول: (لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال سعد: سوق قينقاع، قال فغدا إليه عبد الرحمن..) رواه البخاري. وقد شكر المهاجرون للأنصار فعلهم ومواقفهم الرفيعة في الكرم والإيثار، وقالوا يا رسول الله: ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا في كثير من الأنصار.. ولم يكن سعد بن الربيع منفردا في ذلك عن غيره من الأنصار، بل كان هذا شأن عامة الصحابة، حتى وصلت المؤاخاة إلى درجة أن يتوارث المتآخيان، ثم نسخ هذا التوارث بقول الله تعالى: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم}(الأنفال:75)..
لقد حملت قضية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في طياتها كثيرا من المعاني الطيبة، التي كان من المهم أن تغرس في نفوس الصحابة، خاصة في تلك المرحلة الهامة من تاريخ الإسلام، لما لها من أثر قوي في بناء الدولة المسلمة، وهذه المعاني جديرة بأن نقف معها، لا لتأملها فحسب، بل لنقيم واقعنا اليوم كأفراد ومجتمعات عليها، ومن هذه المعاني:
العقيدة أساس البناء:
حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط، قال تعالى:{إنما المؤمنون إخوة}(الحجرات:10)، وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، فقال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}(المائدة:51)..ولذلك كان التآخي بين المهاجرين والأنصار مسبوقا بعقيدة التوحيد وقائما عليها، فالعقيدة هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت في المدينة، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية لله عز وجل دون الاعتبار لأي فارق، إلا فارق التقوى والعمل الصالح، قال تعالى:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).. ومن ثم لم تكن هذه المؤاخاة شعارا لا يظهر له أثر، بل كانت واقعا قائما على الإيمان بالله، قال الله تعالى: {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}(الحشر:9).. تعلم الصحابة ذلك وتربوا عليه، فكان ولاؤهم لله ورسوله والمؤمنين، وامتلأ تاريخهم بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم وتحقيقهم لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وإخوانهم..
الحب في الله:
المؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة الإسلامية، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق هذا المعنى في المجتمع المسلم الجديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم. فبالحب في الله أصبحت المؤاخاة عقدا نافذا لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا كلمة تنطق بها الألسنة، ومن ثم كانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثلة..
النصيحة بين المتآخين في الله:
كان للمؤاخاة الأثر الكبير في التناصح بين المسلمين. عن أبي جحيفة عن أبيه قال: (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة (قبل نزول الحجاب) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) رواه البخاري.
القضاء على الفوارق الجاهلية:
فوارق الجاهلية من التفاخر بالنسب والقبيلة والجاه وغير ذلك مما كان سائدا حينئذ في تلك المجتمعات، حيث سادت العصبية وكانت دينا عندهم، فكان من أهداف المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إذابة هذه الفوارق، لأنها أمراض وآفات تضعف المجتمع، وتحول بينه وبين القوة والتمكين، لأنه من الصعب بل من المستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم يحدث التآخي بين أفراد المجتمعات والأمة الإسلامية، ومن ثم كانت المؤاخاة نعمة من نعم الله عز وجل، ومن أسباب القوة والعزة والثبات أمام الأعداء، قال الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}(آل عمران:103) ..
لقد ساهمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في تقوية المجتمع المسلم الجديد في المدينة المنورة، وبتحقيقها ذابت العصبية وحظوظ النفس، فلا ولاء إلا لله ورسوله والمؤمنين، وأشاعت في المجتمع عواطف ومشاعر الحب، وملأته بأروع الأمثلة من الأخوة والعطاء، والتناصح والإيثار، وجعلته جسدا واحدا في السراء والضراء، والآلام والآمال، ومن هنا كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في جعل أول عمل يقوم به حين مقدمه المدينة، - بعد بناء المسجد - تأسيسه للمجتمع على المؤاخاة، والتي كانت حلا لكثير من المشاكل، وأهلت المسلمين ليكونوا أقوى أمة على الأرض.. فما أحوجنا إلى التحقق بهذه المؤاخاة للصمود في وجه الأعداء، ومواجهة التحديات التي تواجه أمتنا في هذه الأيام..