أزمة تحرير المصطلحات

0 747

يهتم علماء الأصول بتحرير المصطلحات وضبط معانيها قبل الخوض في تفاصيل المسائل أو الإغراق في الفرعيات العملية، كما يعتنون بتأصيل المفاهيم عند الجدل المنطقي الذي يحدث بين المدارس الفقهية أو الأصولية؛ وما لم يتم ضبط وتوضيح المعنى المراد مناقشته، وإلا أصبح الجدل فارغا من الثمرة قائدا للنفرة بين الأطراف المتجادلة
.
لهذا يقول ابن قدامه المقدسي مؤكدا على هذه القاعدة: "المطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد, والمطلوب من العلم لا يقتنص إلا بالبرهان, فلذلك قلنا مدارك العقول تنحصر فيهما" . ويقصد رحمه الله بـ(الحد)أي التعريف المنضبط للمعنى المراد بيانه، ويزيد الإمام الجويني توضيحا للمقصود بالحد بأنه "اختصاص المحدود بوصف يخلص له وقيل فيه: إنه الجامع المانع, وقيل: هو اللفظ الوجيز المحيط بالمعنى" . ولهذا درجوا في مصنفاتهم الفقهية والأصولية أن يبدأوا بالحد  أوالتعريف الموضح للمصطلح ليزيلوا كل التباس قد يختلط بمعناه نتيجة لوجود الأشباه أو النظائر.

هذه المقدمة أردت بذكرها توضيح حجم الهوة الحاصلة في الأوساط العلمية والثقافية عند طرح قضية للنقاش أو لمعرفة حكم ما في نازلة أو واقعة مستجدة، كيف يحصل الخلط والتباين في الآراء حول تلك القضية أو ذاك المفهوم، وهو لم يحرر ابتداء، ولم يتفق أهل الشأن في تحديد معناه، وكان الأولى أن يقوموا بذلك قبل الخوض في حكمه أو مناقشة صحته. وحتى المجادل في موضوع ما عليه أن يرجع إلى مراد صاحبه من استخدام هذا المصطلح قبل مخالفته ومصارعته في مفاهيم كلامه, هذه البدهية التي كان يقررها علماؤنا في السابق أجدها غائبة في كثير من منا قشتنا في اللاحق, ولعل الأيام الماضية أظهرت حاجتنا إلى تحرير المصطلحات أولا قبل الخوض في أي جدل أو محاورة, ومن أبرز الأمثلة على ذلك الخلاف الكبير حول (زواج المسيار)من حيث جوازه أو منعه, ولو تم ضبط هذا النازلة في معنى محدد لربما خفف كثيرا من الاحتقان الذي تولد بعد قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي.

والمشهد الثقافي اليوم يكاد يعشى عن إدراك الحاجة لتحرير المصطلحات وضبط مفاهيمها على وجه التحديد؛ مما أدى إلى صراعات فكرية، وردود شخصية ملأت ميادين الصحافة والاعلام الفضائي، زاد من سعارها أنها أخذت الطابع المقدس في السجال، كما هي في أزمة الدولة الإسلامية هل هي دينية أم مدنية؟! مع علمي أن مفهوم الدولة في الإسلام ليس مفهوما قطعيا لا خلاف فيه؛ بل هو خاضع لطبيعة الإصلاح الشرعي وسياسة الدنيا به, وأي احتكار لصورة منه تحكم من غير دليل.

ولا يقف الأمر عند هذا الشاهد بل هناك مفاهيم سائدة في الساحة الثقافية أعتقد أنها تحتاج إلى تحرير علمي للمراد منها، بدلا من صور الاختزال في المعنى، أو التحجير في الفهم، أو التوظيف في خدمة المصالح الحزبية أو السياسية، مثل: مفهوم الحرية، و الإرهاب، و الحضارة، والإصلاح، والديمقراطية، و الحداثة، و حقوق المرأة وغيرها. بل هناك مفاهيم فقهية في أبواب السياسة الشرعية ضبطت مصطلحاتها في ظرف وحال معينة كانت فيها الأمة بلدا واحدا، وتحت راية واحدة، وجيش واحد، ويحكمها خليفة واحد، وهذا ما يختلف بالكلية عن وقتنا المعاصر, فكيف نقرر آراء فقهية -ولا أقصد نصوص الوحي- ونجعلها حاكمة على أحوال قد اختلفت في زمانها ومكانها وأحوالها، مثل: مفهوم دار الحرب ودار السلم, أو معنى الجهاد في فرض العين أو الكفاية, أو الشورى والانتخاب, أو أحكام العلاقات الدولية مع الحكومات و الهيئات غير المسلمة, وقد أدى توظيفها خارج سياقها المقاصدي- وبعيدا عن القواعد الأخرى المقيدة والمخصصة لمعانيها- إلى حدوث أزمات فكرية وسياسية مازالت بعض مناطقنا الإسلامية تعاني هذا النوع من التطرف الفكري والفهم المبتور لأحكام السياسة الشرعية, وكم أتمنى أن يجتمع عدد من علماء الأمة وخبرائها في القوانين الدولية إلى تحرير هذه المصطلحات، وتنزيل هذه المفاهيم على واقعنا المعاصر، لعلها أن تخفف حدة الاحتقان الناتج عن فردانية الفهم والتأويل والتنزيل لأحكام الشرع.

إن قضية المصطلحات وتحريرها من الأهواء والحظوظ وتأصيلها بالمعاني الجامعة المانعة أضحى ضرورة في مجتمع ينطلق نحو التعددية والانفتاح, واللبس الفكري قطعا سيحدث مالم يحتو بالوعي الحضاري والبرهان العلمي.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة