دروس وعبر من بيعة العقبة الثانية

1 1851

 

 لما أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصعب بن عمير إلى أهل يثرب يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، انتشر الإسلام في المدينة، ولم يبق بيت من الأنصار إلا دخله الإسلام، وبقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة يلاقي عنت المشركين وأذاهم، فتحركت مشاعر الإيمان في قلوب الأنصار، وتساءلوا فيما بينهم، حتى متى نترك رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤذى في مكة ويضطهد.. فكان اللقاء الذي غير مجرى التاريخ في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة، ولنترك أحد قادة الأنصار يصف لنا هذا الاجتماع التاريخي الذي حول مجرى الأحداث في صراع الوثنية مع الإسلام..

يقول كعب بن مالك الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ :

( خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعقبة من أوسط أيام التشريق،   فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، وامرأتان من نسائنا، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى جاءنا، ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، وكان أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده..

قال كعب : فقلنا له : قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.  قال: فتكلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا (نساءنا وأهلنا)، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، ورثناها كابرا عن كابر.. قال: فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله، أبو الهيثم بن التيهان ، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها ـ يعني اليهودـ ،فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع لقومك وتدعنا؟، قال: فتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم(أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم)، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم.. ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا، ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس ) ( أحمد ).

وفي رواية جابر ـ رضي الله عنه ـ قال:( قلنا يا رسول الله علام نبايعك؟، قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة ) ( أحمد ).

وبعد إقرار بنود البيعة، بدأ عقد البيعة بالمصافحة، قال جابر : ( فقمنا إليه رجلا رجلا، فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة ) ( أحمد ) ..

وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولا، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( .. والله ما مست يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام.. )( البخاري ).

ولما تم إبرام المعاهدة، اكتشفها أحد الشياطين، وجاء هذا الاكتشاف في اللحظة الأخيرة، فقام ذلك الشيطان على مرتفع من الأرض، وصاح بأنفذ صوت سمع قط: يا أهل الجباجب (المنازل) هل لكم في مذمم والصباة(الذين خرجوا عن دين آبائهم) معه، قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( هذا أزب (شيطان) العقبة، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك،  ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم.. وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا.. )( أحمد ).

وفي صباح اليوم التالي جاءهم جمع من كبار رجال قريش، يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فحلف المشركون من الأوس والخزرج بأنهم لم يفعلوا ذلك، والمسلمون ينظرون إلى بعضهم، ولاذوا بالصمت، فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات.

وهكذا أتم الله الصفقة للأنصار الذين أووا إلى الله بإيمانهم وثباتهم، واستطاعوا بمواقفهم أن يسجلوا على صفحات التاريخ عزا ومجدا، وشرفا وسؤددا، فرضي الله عن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجمعين..

 

 

لقد كان الجهاد بالنفس والمال، جوهر هذه البيعة الكبرى العظيمة، فلا قوام لدعوة ولا دولة دون التضحية بالنفس والمال، ومن ثم لابد لنا من وقفة مع بنود هذه البيعة لنأخذ منها العبرة.

 

 

  السمع والطاعة

 السمع والطاعة، في السلم والحرب، في الحضر والسفر، في العسر واليسر:( تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ) ..وهذا أصل في نجاح أي عمل، وبغير السمع والطاعة لله ورسوله، تذهب الريح، وتفتر القوة، ويضيع العمل، ويأتي الشقاء والفشل، قال تعالى:{ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين }(الأنفال46).

 

الإنفاق

 كان البند الثاني في البيعة الجهاد بالمال، فهم مقبلون على مرحلة بناء وتأسيس الدولة، وهي بحاجة إلى جيش وقوة، واقتصاد وعدة، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:( والنفقة في العسر واليسر )، وقال تعالى:{ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } (البقرة:195) .

 

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

هو البند والأصل الثالث في بيعة العقبة الكبرى، ( وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )، ذلكم الأصل ـ بفقهه وآدابه ـ هو علامة على خيرية هذه الأمة، وفضلها وريادتها، كما قال تعالى:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } (آل عمران:110).

 

 

كلمة الحق

وكان البند الرابع: ( وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومة لائم )، إن قوما ضاعت فيهم كلمة الحق، لحري أن يزول أثرهم، فكم أهلك الله من أناس ضاعت بينهم كلمة الحق فلم يؤمر بها، ومن ثم فإن من صفات الذين يحبهم الله ويحبونه، أنهم لا يخافون في الله لومة لائم، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } (المائدة:54).

     

القتال

ثم كان البند الخامس والأهم، القتال دفاعا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى  يبلغ رسالة ربه، وذلك بنصره والذود عنه مثلما يدافعون عن أنفسهم وأزواجهم وأبنائهم، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :( وعلى أن  تنصروني  فتمنعوني إذا قدمت عليكم، مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم )، ولما قال العباس بن عبادة بن نضلة ـ : والذي بعثك بالحق، لئن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لم نؤمر بذلك )، وفي ذلك تذكرة لأصحاب الفكر المتسرع، الذين يظنون أن الإسلام يمكن له بضربة خاطفة .. فالأنصار في هذه البيعة كانوا على أتم الاستعداد لرفع السيوف في وجه صناديد قريش، لكن النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ لم يوافقهم وقال: ( لم نؤمر بذلك )، وهنا حكمة هامة في عدم تعجل قطف الثمار، فالتعجل يضيع الجهد المبذول، وتكون النتيجة الخسارة، وتأخر الدعوة في مقابل مصالح ومكاسب متوهمة، وهذا شاهد لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل ذلك لخباب ( ولكنكم تستعجلون ) ( البخاري ).

 

 

  الجنة

( ولكم الجنة )، هذا هو الجزاء والأجر، وهكذا كانت الصفقة والتجارة مع الله،  فلم يعدهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدنيا، أو زعامة وقيادة، وهم الذين أفنوا عشرات السنين من أعمارهم، يتصارعون على الزعامة والقيادة.. وهذه هي طبيعة العلاقة بين الداعي ودعوته، لا ينتظر من ورائها عرضا من أعراض الدنيا، فضلا عن كون هذه البيعة لا تصلح إلا للذين تجردوا لله، وأخلصوا أنفسهم لنيل رضوانه .

 

 

هذه هي بيعة العقبة الثانية ـ التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى ـ، وقد تمت في جو تعلوه مشاعر  الثقة والشجاعة، والبذل والتضحية، والحب والولاء، فمؤمن من أهل يثرب يحنو على أخيه المستضعف في مكة، ويشعر بآلامه، وتجيش في حناياه مشاعر الود والأخوة والنصرة لهذا الأخ الذي أحبه في الله.. وكان مصدر هذه الطاقة الإيمانية من الإخلاص والتضحية والأخوة عند هؤلاء المبايعين، القرآن الكريم، الذي قرأه عليهم وعلمهم إياه مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ ، فأضاء لهم الطريق، وأوضح لهم الغاية، وصور لهم الجزاء الأخروي رأي العين، فيستطيع الأعرابي أن ينتقل في لحظة، من رمضاء مكة وشدة حرها، إلى أنهار النعيم في الجنة..

 

 

لقد صدق هؤلاء الأنصار عهدهم مع الله ورسوله، وساهموا في قيام الدولة المسلمة.. فبمعاني هذه البيعة، وبمثل هذه النماذج، قامت دولة الإسلام الكبرى.. تلكم النماذج التي تعطي ولا تأخذ، والتي تقدم كل شيء، ولا تطلب شيئا إلا الجنة...

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة