لا استطعت!!

3 1753

عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلا أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله، فقال له: ( كل بيمينك ) ، قال:  "لا أستطيع! "، ما منعه إلا الكبر ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( لا استطعت ) ؛ فما رفعها إلى فيه، رواه مسلم .

معاني المفردات

إلى فيه: إلى فمه

تفاصيل الموقف

صور كثيرة مرت علينا من مواقف النبي –صلى الله عليه وسلم -، تجلت فيها إنسانيته عليه الصلاة والسلام ، وبرزت فيها رحمته بالخلق وعطفه عليهم، والرفق بهم والإحسان إليهم، بل والصبر على أذاهم، لكننا اليوم نقف مع مشهد مغاير تجلت فيه مظاهر الحزم والقوة، والزجر والتسخط على رجل خالف أخلاق الأنبياء، وشيم الأولياء، ليستحق بعظيم جرمه وقبيح فعله دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم – عليه.

وإننا لن نستطيع أن نستبين شدة الموقف أو نفهم سبب الإغلاظ الذي واجه فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك الرجل، إلى الحد الذي جعله يدعو عليه –والأنبياء هم أرجى الناس قبولا للدعاء -، إلا إذا تأملنا المشهد بكافة تفاصيله وملابساته.

فلنعد إذا إلى البداية، ففي ظهيرة يوم من أيام المدينة الصائفة، إذ قدم ضيوف على النبي –صلى الله عليه وسلم- فاستقبلهم بحفاوته المعهودة وكرمه المعروف، وأجلسهم بفناء بيته ليبادلهم أطراف الحديث، وكان من بين الجلوس رجل يقال له: "بسر ابن راعي العير"، و"بسر" هذا كان ممن طبع على قلبه وتلوثت نفسه بأشد الأمراض فتكا وأردئها وصفا، ألا وهو داء الكبر المانع من الانقياد للحق.

وحينما حانت ساعة الغداء، وقدم النبي –صلى الله عليه وسلم- الطعام، وشرع الضيوف في الأكل، لاحظ عليه الصلاة والسلام "بسرا" وهو يأكل بيده اليسرى بدلا من اليمنى فبادر إلى تنبيهه إلى الخطأ الذي وقع فيه، فقال له : ( كل بيمينك ) .

لكن الرجل بما قام في نفسه من استكبار وتعاظم، رفض أن ينصاع لأمر النبي –صلى الله عليه وسلم- وتوجيهه، وفي الوقت ذاته لم يشأ أن يظهر امتناعه صراحة، فتذرع بالعجز وعدم القدرة على تناول الطعام بيده اليمنى، عله أن يفلت من نظرات اللوم والعتاب.

وهنا تعاظم سخط النبي –صلى الله عليه وسلم- على الرجل كيف يأبى الطاعة متذرعا بعدم الاستطاعة؟ وقد بدت تلك الحجة واهية ساذجة لا تخفى على لبيب عاقل يبصر مظاهر الأنفة والاستكبار بادية على وجه صاحبها، فهل ستخفى على سيد وحكيم الإنسانية؟

كان لابد إذا من العقاب والتأديب، حتى يكون عبرة لمن يعتبر، فدعا النبي –صلى الله عليه وسلم- عليه قائلا : ( لا استطعت ) ؛ وما إن خرجت هذه الكلمة من فمه عليه الصلاة والسلام حتى صعدت مباشرة إلى السماء ووافقت ساعة إجابة، فنزل البلاء بالرجل كأسرع ما يكون، لقد يبست يده حتى لم يعد قادرا على رفعها إلى فمه، وظلت هذه العلة فيها حتى مماته، جزاء له على عدم مبالاته واستخفافه.

إضاءات حول الموقف

يريد النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يحذر أمته من خطورة هذا الداء الوبيل؛ ذلك لأن الاستكبار في الأرض والاستنكاف عن الحق من أخطر الأمراض التي يبتلى بها القلب، وصاحبها متوعد بالصرف عن الاتعاظ بآيات الله وأخذ العبرة منها، قال سبحانه وتعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } (الأعراف:146)، ولأن المتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص يطبع الله على قلبه، وذلك مذكور في قوله تعالى: { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} (غافر:35) ، وقد جعل الله جهنم مثوى للمتكبرين كما في الآية الكريمة، وصح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قوله: ( ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر–العتل:الغليظ من الناس والجواظ:الذي يجمع المال ولا ينفقه في سبيل الله-) متفق عليه.

ومن المؤسف أن صور الاستنكاف عن الحق ورفضه موجودة في أيامنا، ترى ذلك في امتناع البعض عن رص الصفوف وتسويتها في الصلاة، وتلمسه في صدود آخرين عن قبول النصح الصادق من أهل الخير وطعنهم في نوايا الناصحين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن ذرائع بعض المترفين وتحايلهم على الشرع، قيامهم بالشرب مستخدمين في ذلك اليد اليسرى، بدعوى أنهم لا يريدون تلويث الكوب ببقايا الطعام، وكأن المسألة تتعلق بأمر مستحب لا واجب، أو كأنهم لا يقدرون على إمساك ذلك الكوب بالسبابة والإبهام من أسفله لينجو من هذا الحرج المزعوم، لكنه العناد والإباء.

ولا يتناول النهي من كانت في يده جراحة أو إصابة أو نحو ذلك مما يمنعه من استخدام يده على الوجه الأكمل، فإنه يرخص له الأكل أو الشرب بيده الأخرى عملا بالقاعدة الشرعية المعروفة: الضرورات تبيح المحذورات، يقول الإمام النووي رحمه الله في ذلك : " فإن كان عذر يمنع الأكل والشرب باليمين من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة".

ومن المباحث التي يذكرها العلماء عند شرح هذا الحديث، السبب الذي جاء لأجله تحريم الأكل بهذه الطريقة، وهو التشبه بالشيطان الرجيم، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يأكلن أحد منكم بشماله ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها ) رواه مسلم ، بل ورد عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: (من أكل بشماله أكل معه الشيطان، ومن شرب بشماله شرب معه الشيطان) رواه أحمد في مسنده، وقال الحافظ ابن حجر : "إسناده حسن"، ثم إن الشمال ينبغي قصر استخدامها في إزالة المستقذرات عند الاستنجاء أو في الاستنثار –وهو إخراج الماء من الأنف- ونحو ذلك.

ومما يدل عليه الحديث: جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعى بلا عذر، وفيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في كل حال، وكذلك استحباب تعليم الآكل آداب الأكل إذا خالفه.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة