- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:القصص النبوي
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظا مصبوبا، وعند رأسه أهب معلقة؛ فرأى أثر الحصير في جنبه، فبكى؛ فقال: (ما يبكيك؟) فقال له: "يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله" فقال عليه الصلاة والسلام: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟) متفق عليه.
وفي رواية أخرى : "..ثم رفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله"، وكان متكئا فقال: ( أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ) متفق عليه.
معاني المفردات
ما بينه وبينه شيء: ما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين هذا الحصير شيء.
وسادة من أدم: الأدم هو الجلد.
قرظا: القرظ نوع من الورق يستخدم لدبغ الجلود.
مصبوبا: مجموعا
أهب معلقة: جلود معلقة
تفاصيل الموقف
كم وقت مر فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمام بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يكاد يتذكر مشاهدته للأدخنة وهي تتصاعد من تنور بيته عليه الصلاة والسلام -سوى مرة تقريبا كل ثلاثة أشهر-، فيؤلمه الواقع ويحزنه الحال.
ولطالما أبصر عمر رضي الله عنه سيد الأولين والآخرين في ثياب متواضعة، وهيئة بسيطة، ومركب معتاد، فلا ترف ولا إسراف، ولا حاشية ولا خدم، كما هو شأن الأباطرة والأكاسرة، ولكن كساء خشن، وإزار غليظ، ورداء نجراني، وركوب على بغلة بيضاء أو ناقة حمراء ،لا سراج من حرير أو خطام مطعم بخيوط الذهب، بل مادة ذلك كله الليف الخشن الذي يصنع الأخاديد على راحة اليد، ولا قصور مشيدة ولا بساتين عالية، ولكن بيوت طين له ولزوجاته، فيزداد ألم عمر رضي الله عنه ويتعاظم.
وتتوالى الأيام واحدة تلو الأخرى، ومع مرورها تزداد مشاعر الإشفاق على حال النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء اليوم الذي دخل فيه عمر رضي الله عنه ليناجيه في بعض الأمور، فهاله ما رأى!!.
ها هو النبي صلى الله عليه وسلم نائم في حجرته، وسريره -إن جاز لنا أن نسميه سريرا- ليس سوى قطعة حصير بالية تكاد تلتصق بالأرض، وعليها وسادة جلدية محشوة بالليف، أهذا هو سرير خير الخلق وأعلاهم منزلة؟ أين هذا مما يسمعه من الأبهة التي عليها ملوك الأرض في زمانه، الذين ينامون على أسرة تصنع من أغلى المعادن وأنفسها، فتحلى قضبانها بالذهب الخالص وترصع بألوان الجواهر والياقوت، وتحشى بطانتها بأفضل أنواع القطن وأجوده، وتجد عليها أستار الحرير ومن حولها قناديل الذهب، في أجواء الرفاهية المشبعة بأذكى العطور وأجملها رائحة.
ويرمي عمر رضي الله عنه ببصره إلى نواحي البيت فلا يكاد يقف على شيء من الأثاث سوى قطع جلدية رثة، وجرة بها ماؤه ووضوؤه، وصحاف قديمة ليس بينها مائدة طعام، ورف عليه شيء من الشعير الذي تصنع منه عائشة رضي الله عنها ما يأكلون.
وبينما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه غارقا في تأملاته إذ قام النبي -صلى الله عليه وسلم- من حصيره وقد أثر على جنبه، عندها تفجرت مآقي الدمع من عيون عمر رضي الله عنه، ولم يستطع أن يحتمل أكثر من ذلك.
كان بكاء عمر رضي الله عنه مفاجئا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، الأمر الذي جعله يتساءل عن سر بكائه وأحزانه، فيفضي إليه عمر رضي الله عنه بمشاعره ولوعاته: "يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله" وفي الرواية الثانية: " فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله".
أوهذا الذي يبكيك يا عمر ؟، دع طغاة الأرض وملوكها في قصورهم الشاهقة ومعاشهم الرغيد ومركبهم الأنيق، دعهم يتنسموا عبير زهرة الحياة الدنيا مرة بعد مرة، فلسوف يأتي اليوم الذي تذبل زهرتها ولو بعد حين، ويفضي كل امرئ منهم إلى ما قدم.
هو اختيار واضح إذا: أولئك القوم اختاروا الدنيا على الآخرة، وفضلوا العاجلة على الباقية، فلهم ما اختاروا، {وما كان عطاء ربك محظورا} ، ولئن رضوا باختيارهم هذا فأخلدوا إلى الأرض، فسوف نرتفع بهاماتنا إلى السماء، ونسموا بهمتنا إلى العلياء، مستعذبين في سبيل ذلك كل مكروه، وصابرين على كل بلاء، ومستقلين من متع الدنيا؛ لأن المسافر لا يأخذ معه إلا ما هو ضروري، وهذه هي حقيقة الاستعلاء على الشهوات والرغبات التي يرسمها لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- منهاج حياة.
إضاءات حول الموقف
درس من الطراز الأول يقدمه لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في علو الهمة، وقوة العزيمة، وسمو المطلب، والاستخفاف بملاهي الحياة، والزهد بما فيها، وتوظيف من يقابله الإنسان من الشدائد والمكاره في تهذيب النفوس والأخلاق.
ولم يكن الموقف الذي بين أيدينا سوى صورة مصغرة للكمال النبوي، لتصبح سيرته عليه الصلاة والسلام أنموذجا يحتذى به، وطريقا نسير عليه.
ولو شاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجرى الله بين يديه ألوان النعيم، ولكان له من ذلك أوفر الحظ والنصيب، لكنه كان راضيا بالقليل، قانعا باليسير، واضعا نصب عينيه قول الحق تبارك وتعالى: { ورزق ربك خير وأبقى} (طه : 131).
يروي لنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن نفسه: (إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة) رواه أحمد ، ونزل إليه ذات مرة ملك من السماء فقال له: " إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا، وبين أن تكون ملكا نبيا "، فأجاب: (بل أكون عبدا نبيا) رواه البخاري في تاريخه، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) متفق عليه.
ولعل في هذه القلة التي كان يعيشها النبي -صلى الله عليه وسلم- سلوى للفقراء، وعزاء لكل مسكين، فلا يعيقهم مكروه أصابهم أو بأس حل بهم أو شدة ألمت بواقعهم عن بلوغ أهدافهم، بل تتصل قلوبهم بالله وتمتلئ نفوسهم رضا بقضاء الله وقدره وقسمته.