خَلْق اللَّه... وشَــرعُ اللَّه

0 812

خلق الله الخلق وأنزل الشرع وجعل بينهما علاقة وثيقة؛ إذ جعل الخلق مناسبا لتحقيق أهداف الشرع:
أولا: من حيث أن خلق الله هو سبب العبادة التي هي الغاية التي من أجلها خلق الإنسان {وما خلقت الـجن والإنس إلا ليعبدون}[الذاريات: ٦٥].. فنحن نعبد الله - تعالى - لأنه هو خالقنا وخالق كل شيء: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: ١٢].

ومناسبة الخلق للعبادة هي أن الخلق يدل:
أولا: على قدرة الخالق؛ لأنه إذا كان خالقا لكل شيء، فهو القادر على كل شيء؛ فيكون بهذا مستحقا لأن يحب ويدعى ويخشى ويرجى؛ لأن أمر الإنسان كله بيده سبحانه.

ويدل ثانيا: على أن كل ما ننعم به هو من خلق الله؛ فيستحق - سبحانه - أن يشكر، والشكر لب العبادة: {الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة: ٢٢]
فإذا كان الله - تعالى - إنما يعبد؛ لأنه هو الذي يخلق، فإن من لا يخلق لا يستحق أن يعبد: {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} [الأحقاف: ٤]، {قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولايضركم * أف لكم ولـما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} [الأنبياء: ٦٦ - ٧٦]. {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} [الفرقان: ٣]. {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: ٧١].

وثانيا: من حيث أن مخلوقات الله - تعالى - آيات وعلامات دالة على وجوده وعلى صفاته، بل وعلى وجود حياة بعد الموت. ولذلك كان التفكر في الخلق من أجل العبادات: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: ١٩١]؛ فالإنسان المؤمن كلما ازدادت معرفته بخلق الله وتفكره فيه ازداد إيمانه به - سبحانه - وأنه سيبعث عباده ويحاسبهم.

وثالثا: ومن حيث إنه إذا كان الخلق بصفة عامة هو سبب عبادتنا لله - تعالى - فإن المخلوقات المعينة إنما صممت لتكون وسيلة لتحقيق تفاصيل العبادات: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لـمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} [الفرقان: ٢٦]. {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والـحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون} [البقرة: ٩٨١] {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس} [طه: ٠٣١].

ورابعا: من حيث كونه وسيلة لما شرع الله من عادات تستقيم بها حياة الناس: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الـحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} [الأعراف: ٢٣] ففي هذا دليل على أنها خلقت منذ البداية للذين آمنوا، وأن مشاركة الكفار لهم فيها أمر مؤقت ينتهي بانتهاء الحياة الدنيوية ثم تكون الزينة خالصة للذين آمنوا لا يشركهم فيها كافر.

والرجال والنساء خلقوا لتكون هنالك صلة بينهم تؤدي إلى الإنجاب: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: ٣٢٢]. والشذوذ محرم؛ لأنه ترك للأمر الطبيعي، ووضع للشهوة في غير موضعها الذي خلقه الله لها: {إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون} [الأعراف: ١٨] {أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} [الشعراء: ٥٦١ - ٦٦١].

وخامسا: من حيث مناسبة الخلق لما شرع الله - تعالى - للناس من معاملات وأخلاق تنتظم بها حياتهم؛ فأصل الإحسان إلى الناس الذي أمر الله - تعالى - به مبناه على الإيمان بالدين الحق؛ والدين الحق مركوز في فطرة الإنسان: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لـخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: ٠٣].

 وداعي الإحسان إلى الخلق يزداد قوة بما خلق الله - تعالى - بين الناس من صلات الأخوة الإيمانية، وصلات القربى الطبيعية: {إنما الـمؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} [الحجرات: ٠١] {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والـمساكين والـجار ذي القربى والـجار الـجنب والصاحب بالـجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} [النساء: ٦٣].

وقد جعل الله - تعالى - الإنفاق إلى الأقرب فالأقرب من الناس قربا طبيعيا؛ لأن هذا أمر سهل على النفس البشرية؛ لأنه أمر تدعو الناس إليه فطرتهم التي فطرهم الله - تعالى - عليها: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والـمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} [البقرة: ٥١٢].

هذه الطريقة الطبيعية إلى الإحسان إلى الناس ومساعدتهم، أحسن وأجدى من اعتبار الناس جميعا أفرادا مشتتين وإيكال أمرهم إلى رعاية الدولة وحدها؛ فالشرع الإسلامي يقسم الناس إلى مجموعات يتكون منها المجتمع لا أفراد، ويقسم المسؤوليات بينهم: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته[متفق عليه].

في كل هذا دليل على أن الخلق لم يخلق في البداية مستقلا عن الشرع، ثم جاء الشرع ليختار منه ما يكون مناسبا له كـ (أوقات الصلوات والصيام والحج) بل إن الخلق بطبيعته وأماكنه وأزمانه صمم منذ البداية ليكون مناسبا لشرع الله، ثم جاء الشرع موافقا لما صمم له وقصد به.

وسادسا: من حيث أن من المعجزات التـي يؤيد اللـه - تعالى - بها رسله إنما هي خوارق لعادات طبيعية مطردة في الكون؛ فخرقها تأييدا للأنبياء يدل على صدقهم وعلى أن الأمر كله بيد الله - تعالى - فعندما رأى السحرة عصا موسى تنقلب إلى حية حقيقية آمنوا؛ لأنهم رأوا الفرق بينها وبين الحيات المصطنعة التي موهوا بها على الناس: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الـملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم * وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الـحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين *رب موسى وهارون} [الأعراف: ٥١١ - ٢٢١].
وخرقها يدل أيضا على أنها لا تسير وفق قوانين طبيعية مستقلة عن خالقها، بل إن قوانينها نفسها هي من خلق الله - تعالى - ولذلك فإنه يخرقها متى شاء تأييدا لصدق أنبيائه.

وسابعا: من حيث إن المؤمن يعيش في عالم صديق تربطه به صلة الإيمان بالله وعبادته؛ فكل ما في الكون يصلي لله - تعالى - كما يصلي المؤمن: {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} [النور: ١٤].. وكل ما في الكون يسبح الله - تعالى - كما يسبحه المؤمن: {سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الـحكيم} [الحديد: ١].. وكل ما فيه يسجد له كما يسجد المؤمن: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والـجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: ٨١] وكل ما فيه يقنت له ويطيع كما يفعل المؤمنون: {وله من في السموات والأرض كل له قانتون} [الروم: ٦٢].

 ثامنا: أن معارفنا البشرية تتلقى من مصدرين لا ثالث لهما هما: (وحي الله، وخلق الله) وهما مصدران يصدق بعضهما بعضا؛ فلا تجد في كتاب الله ما يخالــف واقــعا خلقــه الله، ولا تجد في ما خلقه ما يكذب كلاما ذكره الله - تعالى -: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الـحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: ٣٥].

لكن غلبة الفكر الغربي الذي صار منذ القرن الثامن عشر الميلادي فكرا شبه إلحادي، حصرت مصادر المعرفة في الكون وحده، وصارت كل إشارة في مصدر أمرا غير علمي؛ وبهذا عرف العلم تعريفا جعله - حتى من حيث المبدأ - مخالفا بالضرورة للدين حقا كان أو باطلا. وقد كان هذا هو السبب في الفكرة التي سميت بإسلامية العلوم؛ إذ إن جوهرها هو أن لا يقتصر في معرفة الحقائق في أي علم من العلوم على المصدر الكوني، بل يضاف إليه ما أوحاه الله - تعالى - من كتاب وسنة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة